النظر الثاني في بيان الأمور الإنشائية الطلبية
  العلماء من ذهب إلى اعتبارها في الأمر والنهى، والصحيح خلافه، وقد يرد على جهة التهديد كقول المعلم لصبيانه، «لا تقرءوا»، وقد زعم السكاكى التكرار والفور فيهما جميعا، بناء على التوهم الذي حكيناه عنه، وهو فاسد، فإن كلامنا إنما هو في مطلق الصيغة فيهما جميعا، هل تدل على شيء من هذه اللوازم العارضة، كالفور والتراخي، والتكرار وعدمه، والمختار عندنا أنهما بالإضافة إلى مطلق صيغهما لا دلالة لهما على شيء من هذه اللوازم، وإنما تعرف هذه اللوازم بأدلة منفصلة من وراء الصيغة، والذي يدل عليه بمطلقهما، هو الطلب في الأمر، والمنع في النهى، لأن هذين الأمرين من حقائقهما، فلا جرم كانا دالين عليهما، فأما ما وراء ذلك من تلك الأمور اللازمة، فإنما تعرف بأدلة شرعية لا من نفس الصيغة، ومثال ذلك من التنزيل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ}[الأنعام: ١٥١]، و {لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ}[البقرة: ١٨٨]، {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: ٣٤] إلى غير ذلك من المناهى الشرعية، فإنها دالة على المنع والتحريم.
دقيقة
  اعلم أن الأمر والنهى يتفقان في أن كل واحد منهما لا بدّ فيه من اعتبار الاستعلاء، وأنهما جميعا يتعلقان بالغير فلا يمكن أن يكون الإنسان آمرا لنفسه، أو ناهيا لها، وأنهما جميعا لا بدّ من اعتبار حال فاعلهما في كونه مريدا لهما، إلى غير ذلك من الوجوه الاتفاقية، ويختلفان في الصيغة، لأن كل واحد منهما مختص بصيغة تخالف الآخر، ويختلفان في أن الأمر دال على الطلب، والنهى دال على المنع، ويختلفان أيضا في أن الأمر لا بدّ فيه من إرادة مأمورة، وأن النهى لا بدّ فيه من كراهية منهية، إلى غير ذلك من الوجوه الخلافية، واستغراقها يكون بالمسائل الأصولية، وقد رمزنا إليها.