البحث الثاني في بيان ما يجب مراعاته من حسن التركيب
  الرقة واللطافة، والأحرف فيهما واحدة من غير اختلاف، وما وقع الاختلاف إلا في التأليف لا غير، وربما وقع في الألفاظ ما يكون هو ومقلوبه في غاية الحسن والرقة لا مزية لأحدهما على الآخر، وهذا كقولنا «غلب» إذا قهر، فإذا قلبته قلت «بلغ» فهاتان اللفظتان سواء في الفصاحة، وهذا كقولنا «ملح» الشئ من الملاحة، فإذا قلبته قلت فيه: «حلم» من الحلم والرجاحة، فكل واحد منهما لا مزيد على حسنه، وكل هذا يدلك على أن المعول عليه في ذلك هو ما يجده الإنسان عند التأليف من الذوق والرقة، ولهذا فإنك ترى الكلمات المستعملة في كلام الله تعالى والسنة النبوية مؤلفة تأليفا معجبا على نهاية اللطافة والرشاقة والرقة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أنه لا بدّ من مراعاة أمور في تأليف الكلمة لتكون فصيحة.
  «أولها»: أن لا تكون تلك الأحرف متنافرة في مخارجها فيحصل الثقل من أجل ذلك.
  «وثانيها»: أن تكون معتدلة في الوزن فإن الأوزان ثلاثة: ثلاثية ورباعية وخماسية، فأكثرها استعمالا هو الثلاثي، وما ذاك إلا لخفته، وأبعدها في الاستعمال الخماسى لأجل كثرة حروفه، وأوسطها الرباعي لحصوله بين الأمرين، والتعويل في ذلك على الذوق، فإنها ربما كثرت وهي خفيفة على اللسان كقوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}[البقرة: ١٣٧] وكقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}[النور: ٣٥]، ولهذا عيب على امرئ القيس في قوله:
  غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضل العقاص في مثنّى ومرسل(١)
  وثالثها: توالى الحركات فإذا حصل سكون الوسط كان أعدل ما يكون وأرق وإن توال ثلاث فتحات فهو أخف من حصول الضم في وسطه، فلهذا فإن فرسا، أخف من عضد، والمعيار في ذلك هو عرضه على ما قلنا من تحكيم الذوق، ولهذا فإنه قد يتوالى ضمتان وهو غير ثقيل كقوله تعالى {ضَلالٍ وَسُعُرٍ ٤٧}[القمر: ٤٧] وقوله: {فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ٥٢}[القمر: ٥٧] فالتعويل على ما ذكرناه في كل أحواله وبالله التوفيق.
(١) الضمير عائد إلى الفرع في البيت السابق وهو قوله:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل.
مستشزرات: مرتفعات أو مرفوعات وهي موضع الشاهد.