المقدمة الرابعة في ذكر مفهوم الفصاحة والبلاغة وبيان التفرقة بينهما
  المثال الثاني قولنا: «اطلخمّ الأمر كما وقع لأبى تمام حيث قال «قد قلت لما اطلخم الأمر» فإن هذه اللفظة منكرة قبيحة مجانبة للكلم الفصيحة.
  المثال الثالث قولهم جفخت كما وقع في شعر أبى الطيب المتنبي قال:
  جفخت وهم لا يجفخون بها بهم(١)
  والمراد فخرت وهذه اللفظة من مستقبحات الألفاظ ومستهجناتها فما هذا حاله ينبغي تجنبه.
  الخاصة الرابعة: أن تكون اللفظة مألوفة في الاستعمال فلا تكون وحشية، ويقرب معناها فلا يبعد تناوله، فيكون سهلا بالإضافة إلى لفظه، سريع الوقوع في النفوس بالإضافة إلى معناه، وقد زعم بعض النظار من أهل هذه الصناعة أن الكلام الفصيح ما كان في ألفاظه عنجهية الغرابة وبعد عن الأفئدة الإحاطة بمعناه وعز عن الأفهام إدراكه، فما هذا حاله يصفونه بالفصاحة، وهذا جهل بمحاسن الفصاحة وأوضاع البلاغة فإنك ترى ألفاظ القرآن والسنة النبوية مع بلوغهما كل غاية من الفصاحة بحيث لا يدانيهما كلام في غاية البيان والظهور بالإضافة إلى ألفاظهما، وفي نهاية القرب بمعانيهما، وقد وصف الله كتابه الكريم بأنه بيان وتبيان، ولهذا فإنه لا يكاد يشكل من ألفاظ القرآن والسنة على أحد إلا من جهة التركيب لا غير، فأما مفرداتهما ففي غاية الوضوح والبيان والظهور، فمتى حصلت هذه الخواص التي ذكرناها لكل لفظة كانت الغاية، وعد الكلام فصيحا بلا مرية.
  الخاصة الخامسة: أن يكون اللفظ مختصا بالجزالة والرقة ولسنا نعنى بالجزالة في الكلام أن يكون وحشيا في غاية الغرابة في معانيه والوعورة في ألفاظه، ولا نريد بالرقة أن يكون ركيكا نازل القدر سفسافا، ولكن المقصود من الجزالة أن يكون مستعملا في قوارع الوعيد، ومهولات الزجر وأنواع التهديد، وأما الرقة فإنما يراد بها ما كان مستعملا في الملاطفات واستجلاب المودة والبشارة بالوعد، والقرآن العظيم وارد بالأمرين جميعا، ولنورد من ذلك أمثلة ثلاثة موضحات مقصودنا مما نريده هاهنا.
  المثال الأول: في الجزالة وما ورد فيها وهي مخصوصة بذكر أهوال القيامة، والتحفظ على الأوامر والمناهى عن الحدود، وحكاية إيقاع المثلات بالأمم الماضية وغير ذلك مما
(١) البيت في الديوان ص ٢٢٥.