الفصل الأول في بيان فصاحة القرآن
  الدرجة الرابعة: كأنه قال وهنت عظام بدني، جعله كناية عن ضعف حاله، ورقة جسمه، ثم تركت هذه الجملة إلى جملة أخرى أكثر تفصيلا منها.
  الدرجة الخامسة: كأنه قال أنا وهنت عظام بدني، فأعطيت مبالغة، لما قدم المبتدأ ببناء الكلام عليه كما ترى.
  الدرجة السادسة: كأنه قال إني وهنت العظام من بدني فأضاف إلى نفسه، تقريرا مؤكدا «بأن» للأمر، واختصاصها بحاله، ثم تركت هذه الجملة بجملة غيرها.
  الدرجة السابعة: كأنه قال إني وهنت العظام منى، فترك ذكر البدن، وجمع العظام، إرادة لقصد شمول الوهن للعظام ودخوله فيها.
  الدرجة الثامنة: ترك جمع العظام إلى إفراد العظم، واكتفى بإفراده فقال: إني وهن العظم منى.
  الدرجة التاسعة: ترك الحقيقة، وهي قوله أشيب، أو شاب رأسي، لما علم أن المجاز أحسن من الحقيقة، وأكثر دخولا في البلاغة منها، ثم تركت هذه الجملة بجملة أخرى غيرها.
  الدرجة العاشرة: أنه عدل عن المجاز إلى الاستعارة في قوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}[مريم: ٤] وهي من محاسن المجاز، ومن مثمرات البلاغة، وبلاغتها قد ظهرت من جهات ثلاث.
  الجهة الأولى إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال بجميع الرأس، بخلاف ما لو قال: اشتعل شيب رأسي، فإنه لا يؤدى هذا المعنى بحال، فاشتعل رأسي وزان اشتعلت النار في بيتي، واشتعل رأسي شيبا، وزان اشتعل بيتي نارا.
  الجهة الثانية الإجمال والتفصيل في نصب التمييز، فإنك إذا نصبت {شَيْباً} كان المعنى مخالفا لما إذا رفعته، فقلت: اشتعل شيب رأسي، لما في النصب من المبالغة دون غيره.
  الجهة الثالثة تنكير قوله شيبا، لإفادة المبالغة، ثم إنه ترك لفظ (منى) في قوله واشتعل الرأس شيبا، اتكالا على قوله: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} ثم إنه أتى به في الأول، بيانا للحال وإرادة للاختصاص بحاله في إضافته إلى نفسه، ثم عطف الجملة الثانية على الجملة الأولى بلفظ الماضي، لما بينهما من التقارب والملائمة، فانظر إلى هذا السياق المثمر المورق، وجودة هذا الرصف المعجب المونق، كيف ترك جملة إلى جملة، إرادة للإجمال بعده