المطلب الثالث في بيان ما يكون على جهة الاشتراك بينهما
  اللفظ أن يكون طبقا لمعناه من غير زيادة ولا نقص وربما يصفونه بالسلاسة والسهولة في حسن ألفاظه ونظمه، وقد يذمونه بأنه معقد جرز، ولأجل تعقيده استهلك المعنى وأنه غريب وحشى فيه عنجهانية، ويختص بالخشونة فيصفون كل واحد من البلاغة والفصاحة بما يليق به، وفي هذا دلالة على حصول التفرقة بينهما كما ذكرناه، ومن أعجب ما نورد فيما نحن بصدده في الفصاحة والبلاغة ما وجد في كتاب زهر الآداب للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن علي الحصري من أوصاف بليغة على ألسنة أقوام من أهل الصناعات، فوصفوا البلاغة على وفق الصناعات فقال الجوهري: أحسن الكلام نظاما ما ثقبته الفكرة، ونظمته الفطنة وفصل جوهر معانيه في سموط ألفاظه فاحتملته نحور الرواة. وقال العطار: أطيب الكلام ما كانت فيه عبقة الأفهام ودروزه الحلاوة ولابسه جسد اللفظ وروح المعنى. وقال الصباغ: ما لم ينتقص من إيجازه، ولم تنكشف صبغة إعجازه قد صقلته يد الروية من كمون الأشكال فراع كواكب الآداب، وألف عند ذوى الألباب. وقال القزاز: أحسن الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه، فخرج مفوّفا منيرا موشى محبرا. وقال الرائض: خير الكلام ما لم يخرج من حد التخليع إلى منزلة التقريب، وكان كالمهر الذي أطمع أول رياضته في تمام ثقافته. وقال الجمّال: البليغ الذي أخذ بخطام كلامه فأناخه في مبرك المعنى ثم جعل الاختصار له عقالا، والإيجاز له مجالا، لم يند عن الآذان، ولم يشذ عن الأذهان. وقال المتهم بالريبة: خير الكلام ما تكثرت أطرافه وتثنت أعطافه وكان لفظه حلة، ومعناه حلية. وقال الخمار: أبلغ الكلام ما طبخته في مراجل العلم، وصفيته من راووق الفهم وضمنته دنان الحكمة فتمشت في المفاصل عذوبته، وفي الأفكار رقته، وفي العقول حدته. وقال الفقاعي: خير الكلام ما روحت ألفاظه غباوة الشك ورفعت رقته فظاظة الجهل، فطاب حساء فطنته وعذب مصّ جرعه. وقال الطبيب: خير الكلام ما إذا باشر دواء بيانه سقم الشبهة استطلقت طبيعته غباوة الفهم فشفى من سوء التوهم، وأورث صحة التفهم. وقال الكحال: خير الكلام ما سحقته بمنحاز الذكاء، ونخلته بحرير التمييز وكما أن الرمد قذى الأبصار، فهكذا تكون الشبهة قذى البصائر، فاكحل عين اللكنة بميل البلاغة، واجل رمص الغفلة بمرود اليقظة.
  ثم أجمعوا عن آخرهم على أن خير الكلام وأبلغه في الفصاحة وأجوده، هو الكلام الذي إذا أشرقت شمسه انكشف لبسه. فكل واحد من هؤلاء قد وصف البلاغة مما