الباب الخامس عشر: في بيان ما يجب معرفته من أصول الدين
  قلنا: لوجوه كثيرة:
  أحدها: أنه قد تقرر في عقل كل عاقل أن التحرز من المضار المعلومة والمظنونة واجب، وكذلك المعالجة إذا خاف من تركها مضرة، ويشربون الدواء الكريه، ويمتنعون من الاشربة والأطعمة اللذيذة، ويحتجمون ويقطعون الأعضاء، ويوجبون ذلك إذا خافوا من ضرر أعظم منه، وكذلك سلوك الطريق إذا خافوا أن يكون فيه لص أو سبع يوجبون التحرز عن سلوكه ويسلكون طريقاً آخر وإن كان أبعد منه، فإذا صحت هذه الأشياء وحسن في عقل كل عاقل، وخطر ببال العاقل أن له صانعاً صنعة ومدبراً دبره وإنه حسن في عقله المحسنات، وقبح في عقله المقبحات، إن عرفه [أنه إن] أطاعه أثابه، وإن عصاه عاقبه، كان أقرب إلى فعل الواجبات وترك المقبحات، وإن لم يعرفه كان أقرب إلى فعل القبائح، وأبعد من فعل الواجبات، فيجب أن يعرفه؛ ليصل إلى الثواب وينجو من العقاب.
  دليل آخر: وهو أنه إذا سمع اختلاف العقلاء في الديانات والمذاهب ويدعو كل واحد إلى مذهبه وطريقه، ويخوف من كان على خلاف مذهبه بالعقاب الدائم، يصير خائفاً، والخوف ضرر، ودفع الضرر واجب، فيجب أن ينظر ويعرف الحق؛ لينجو من الخوف والعقاب.
  وأيضاً: فإنه يرى على نفسه نعماً كثيرة ظاهرة وباطنة في الأيام والليالي، وتقرر في عقل كل عاقل وجوب الشكر للمنعم، ولا يصح الشكر إلا بعد معرفة المنعم فيجب أن يعرفه؛ ليشكره على نعمه.
  فصل: فإن قال: ولِمَ قلت إن معرفة الله - تعالى - لا تحصل إلا بالنظر في الدليل؟