الرسالة في نصيحة العامة،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

الباب الأول: في مطلوب العقلاء

صفحة 43 - الجزء 1

  يحفرون القُنِيّ⁣(⁣١) والآبار ويعملون الأعمال الشديدة؛ لدفع المضار وجلب المنافع، والأُجراء يختارون التعب والنصب ويتحملون الشوك؛ للنفع ودفع الضرر، والكُنَّاس ربما يكنسون من البكرة إلى الليل؛ لأجل النفع، ويحتمي الإنسان من الطعام الشهي والشراب الهني ويأكل الطعام الكريه ويشرب الدواء الكريه؛ لطلب النفع ودفع الضرر، ويحتجم الأولاد الأعزة؛ لأجل النفع أو لدفع ضرر، وربما يقطع الإنسان عضواً من أعضائه؛ لأجل نفع أو لدفع ضرر معلوم أو مظنون، وربما يصلون إلى ما يطلبون وربما لا يصلون إليه، والعقلاء بأسرهم يستحسنون جميع هذه المشاق ولا ينكرون حسنها.

  فإذا صحت هذه الجملة وتقرر في عقل كل عاقل أن لكل نفع سبباً يطلب به، ولكل ضرر سبباً يدفع به عن النفس، فينبغي أن يطلب النفع بذلك السبب حتى يحصل المقصود، فإن طلب النفع بدون ذلك السبب لا يصل إليه، كما أن من أراد أن يحصد غلةً لا بد له أن يزرع وفي وقت ما يزرع يعلم أنه يكون أقرب إلى حصول المقصود، وكذلك من يريد أن يتخذ بستاناً أو حديقة يحصّل أسبابه ويغرس الأشجار فيه في وقت يحصل المقصود، وكذلك لكل مضرة سبب لا يمكن دفعها إلا به، فإن أراد أن يدفع المضرة بغير ذلك السبب لا يجدي ويهلك، والعقلاء يسمونه أحمقاً حتى لو أن أحداً غلبت عليه الحرارة فتداوى بالعسل أو بغيره من الأشياء الحارة ينسب إلى الحماقة، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى مثال، فإذا كان هذا هكذا فلا بد لكل أمرٍ من مقصود ومراد وطلب وسبب ويكون ذلك السبب على وجه يصل به إلى المقصود.

  وبناء هذا الفصل يكون على أربعة أشياء:

  أحدها: الطالب، وهو المكلف.


(١) جمع قناة، وهي ما يحفر في الأرض ليجري فيه الماء.