الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

البحث الرابع في أحكام الاستعارة

صفحة 5 - الجزء 2

  فهم لإعراضهم عن الدّين، وإصرارهم على المخالفة لما جاء به الرسول ÷ وبلوغ الغاية في الصّدّ والنكوص، ممثّلون بحال من جعل على قلبه كنان فهو لا يفقه ما يقال له، ولا يرعوى لقبوله، وبحال من ضرب بينه وبين مراده بسدّ من بين يديه ومن خلفه، فهو لا يهتدى إليه، ولا يمكنه الوصول إلى بغيته بحال، وقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ} فيه تنبيه على ما هم عليه من التّمادى في ركوب الباطل، وإكبابهم على الجحود والكتمان لما جاءهم من الحقّ، وقطع للرجاء بخيرهم، وسد لطريقه؛ لأن من كان بين يديه سد، ومن خلفه سد وأغشى على بصره، تعطّل، فأنّى يكون له اهتداء إلى طريق الخير، وسلوك بسبيله، وهذا باب من فنّ البلاغة يقال له التخييل، وسنورد فيه حقائق وأمثلة شافية عند الكلام في معاني البديع وخصائصه.

  وممّا ورد من التمثيل في السّنّة النبوية قوله ÷: «إيّاكم وفضول المطعم فإنه يسم القلب بالقسوة، ويبطئ الجوارح عن الطاعة، ويصمّ الآذان عن سماع الموعظة، وإياكم وفضول النظر، فإنه يبذر الهوى، ويولّد الغفلة».

  ومنه قوله ÷: «حلوا أنفسكم بالطاعة، وألبسوها قناع المخافة، واجعلوا حرثكم لأنفسكم، وسعيكم لمستقرّكم».

  ومن كلام أمير المؤمنين في التمثيل، في كلام يشير به إلى الخوارج: «حاول القوم إطفاء نور اللّه من مصباحه، وسدّ فوّارة من ينبوعه، وجدحوا⁣(⁣١) بيني وبينهم مشربا وبيئا، فإن ترتفع عنّا وعنهم محن الدنيا أحملهم من الحق على محضه، وإن تكن الأخرى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات».

  وقال في كلام يصف به الرسول ÷ وذمّه للدنيا: «قضم الدّنيا قضما، ولم يعرها طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدّنيا بطنا، أعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن لسانه، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه».

  وقال في وصف أهل الدنيا: «يمسى مع الغافلين، ويغدو مع المذنبين، بلا سبيل قاصد، ولا إمام قائد، حتى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم واستخرجوا من جلابيب غفلتهم، استقبلوا مدبرا، واستدبروا مقبلا، فلم ينتفعوا بما أدركوا من طلبتهم ولا بما قضوا من وطرهم».


(١) يقال: جدح السويق وغيره لتّه وشربه بالمجدح، والمجدح: خشبة في رأسها خشبتان معترضتان. اللسان:

(جدح).