الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

الباب الثاني في ذكر الدلائل الإفرادية وبيان حقائقها

صفحة 60 - الجزء 2

  وتصير الجملة جملة واحدة، ويصدّق ما قلناه حديث أنس بن مالك ¥ قال:

  «كان أصحاب رسول الله ÷ ينامون ثم يصلون لا يتوضئون» وفي حديث آخر بإثبات الواو. وفي قوله: «ولا يتوضئون» فالواو دالة على انفصال الجملة عما قبلها وعلى مغايرتها له، وحذف الواو فيه دلالة على اتصال الجملة الثانية بالأولى والتحامها بها، حتى كأنها أحد متعلقاتها؛ لأنها إذا كانت الواو محذوفة فيها كانت في موضع نصب على حال، وكان الجملتان كأنهما أفرغا في قالب واحد، كأنه قال: «ينامون ثم يصلون غير متوضئين» ومع هذا يكون الكلام أشد إيجازا وأعظم بلاغة. ومن أعجب مثال فيما نحن بصدده قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}⁣[آل عمران: ١١٨] لأن التقدير وودوا ما عنتم وقد بدت البغضاء من أفواههم، فلما حذفت هذه الواو كان الكلام مع حذفها أدخل في الإعجاز، وأحسن في الاختصار والإيجاز، وأبلغ في تأليفه ونظمه، وأحلى في سياقه وعذوبة طعمه، لا يقال: فإن الواو قد جاءت ثابتة في قوله تعالى: {وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ٤}⁣[الحجر: ٤] وجاءت محذوفة في مثل قوله تعالى: {وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ٢٠٨}⁣[الشعراء: ٢٠٨] فهل من تفرقة بين إثباتها وحذفها، وما ضابط الحذف والإثبات فيما هذا حاله، لأنا نقول: أما التفرقة فهي ظاهرة: فإن الواو إذا كانت محذوفة فهي في حكم التكملة والتتمة لما قبلها، تنزل منزلة الجزء منها كما أوضحناه، وإذا كانت الواو موجودة كانت في حكم الاستقلال بنفسها، فعلى هذا تقول:

  ما جاءني زيد إلا وهو ضاحك وما لقيته إلا وهو راكب، فتثبت الواو وتحذفها على التنزيل الذي ذكرناه، وما هذا حاله فهو تفريغ في الصفات في الاستثناء كما ورد في الآيتين جميعا بالواو وحذفها على الجواز فيهما، وأما الضابط لدخولها في الصحة والامتناع فنقول: كل اسم نكرة جاء قبل «إلا» فإنك تنظر إلى العامل في تلك النكرة، فإن كان ناقصا فإنه يمنع الإتيان بالواو، وهذا كقولك ما أظن درهما إلا هو كافيك، ولا يجوز بالواو فلا تقول: إن رجلا وهو قائم لما كان العامل الأول يفتقر إلى تمام؛ لأن الظن يفتقر إلى مفعولين ويحتاج إلى خبر فلهذا استحال وجود الواو هاهنا لما قررناه، وإن كان العامل في النكرة تاما، فإنه يجوز الإتيان بالواو وتركها، وعلى هذا تقول: ما جاءني رجل إلا وهو ضاحك بإثبات الواو وحذفها كما أشرنا إليه.