الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

القسم الثالث في بيان الإيجاز من غير حذف فيه

صفحة 66 - الجزء 2

  وتقطع أوصاله «ثم إذا شاء أنشره» في الآخرة للجزاء على الأعمال «كلا» ردع وزجر، عقّبها في آخر الكلام تنبيها على أن الإنسان على ما هو فيه مما وصف من حاله «لما يقض» شيئا مما أمره الله وأنه مقصر في حق الله لا يألو جهدا في الإصرار والمخالفة، فقد حصل هذا الكلام على نهاية المطابقة للمقصود منه، فلو أردت زيادة عليه لكانت فضلا، ولو أردت نقصانا منه لكان إخلالا، ومنه قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}⁣[البقرة: ٢٣٦] وقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ}⁣[الروم: ٤٤] وقوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ٢١}⁣[الطور: ٢١] وقوله تعالى: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ}⁣[البقرة: ٢٧٥] ومواقعه في التنزيل كثيرة.

  المثال الثاني: ما ورد من السنة الشريفة كقوله ÷: «الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك مشتبهات» فهذا من أجمع ما يكون للمعاني البالغة، ومن هذا قوله # «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى» وقوله ÷: «الضعيف أمير الركب» وفي حديث آخر «سيروا بسير أضعفكم» وقوله لمعاذ «صلّ بهم صلاة أضعفهم» وقوله ÷: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ومن ذلك ما قاله خطابا لقريش «يا ويح قريش لقد نهكتهم الحرب ما ضرهم لو ماددناهم مدة ويدعوا بيني وبين الناس فإن أظهر عليهم دخلوا في دين الله وافرين وإلا كانوا قد حموا وإن أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمرى هذا حتى تنفرد سالفتي هذه أو لينفذن الله أمره» وهذا الحديث قد جمع من المحاسن والإحاطة في بلاغة المعاني وفصاحة الألفاظ ما لا يقدر على وصفه قائل، ولا يستولى على حصر لطائفه مجيب ولا سائل.

  المثال الثالث: من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه يخاطب فيه معاوية: «فاتّق الله وانظر في حقه عليك، وارجع إلى معرفة مالا تعذر بجهالته، فنفسك نفسك، فقد بين الله لك سبيلك، وحيث تاهت بك أمرك فقد أجريت إلى غاية خسر ومحلة كفر، وإنّ نفسك قد أوصلتك شرا وأقحمتك عيا وأوردتك المهالك، وأوعرت عليك المسالك». وقال #: «عليكم بطاعة من لا تعذرون بجهالته، قد بصرتم إن أبصرتم، وهديتم إن اهتديتم، عاتب أخاك بالإحسان إليه، وأردد شره بالإنعام عليه، من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن، لا ينال العبد نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يستفيد يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله، من أين ترجو البقاء وهذا الليل والنهار لم يرفعا من شيء شرفا إلا أسرعا الكرة في هدم ما بنيا وتفريق ما جمعا». فهذا الكلام ما ترك للإيجاز غاية إلا وصلها، ولا نكتة