الباب الثاني في ذكر الدلائل الإفرادية وبيان حقائقها
  شريفة إلا حازها وحصّلها، ومن أعجب ما فيه أنه مشتمل على هذه الأسرار بألفاظه، ولو حذفت واحدة منها أخللت بمعناها الذي جاءت من أجل الدلالة عليه.
  المثال الرابع: ما أثر في ذلك من كلام البلغاء. فمن ذلك ما كتبه طاهر بن الحسين إلى المأمون، وكان واليه على عماله بعد لقائه بعيسى بن ماهان وهزمه لعسكره وقتله إياه، فكتب إلى المأمون يخبره بما كان منه في ذلك فقال: «كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس عيسى ابن ماهان بين يدي وخاتمه في يدي، وعسكره مصرّف تحت أمرى والسلام». وهذا من عجائب الإيجاز وبليغ الاختصار التي حوت المطلوب، وحازت المقصود. ولما أرسل المهلّب بن أبي صفرة أبا الحسن المدائني إلى الحجاج بن يوسف يخبره أخبار ما هو عليه في ولايته فقال له الحجاج: «كيف تركت المهلّب» فقال له: «أدرك ما أمّل، وأمن مما خاف» فقال: «كيف هو تجده بجنده». فقال: والد رؤوف، فقال: «كيف جنده» له فقال: «أولاد بررة»، قال: «كيف رضاهم عنه». فقال: «وسعهم بفضله، وأغناهم بعدله»، قال: «كيف تصنعون إذا لقيتم العدو». قال: «نلقاهم بجدنا ويلقونا بجدهم» قال: «كذلك الجد إذا لقى الجد». قال: «فأخبرني عن بنى المهلب» قال: «هم أحلاس القتال بالليل حماة السّرح بالنهار»، قال: «أيهم أفضل». قال: «هم كحلقة مبهمة مضروبة لا يعرف طرفاها» قال الحجاج لجلسائه: «هذا والله الكلام الفصل الذي ليس بمصنوع ولا متكلف».
  المثال الخامس: ما ورد من الأبيات الشعرية. وهذا كقول أبى نواس في صفة الخمر في أوعيتها(١):
  تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
  قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدّريها بالقسىّ الفوارس
  فللراح ما زرّت عليها جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
  فما هذا حاله من الشعر الفائق والنظم الجيد الرائق. وحكى عن الجاحظ أبى عثمان أنه قال: «لا أعرف شعرا يفضل هذه الأبيات لابن هانئ، ولقد أنشدتها أبا شعيب القلال، فقال: والله يا أبا عثمان إن هذا هو الشعر الذي لو نقر لطنّ، ومهما حركت أو تار نغماته لحنّ». وحسبك به إعجابا اعتراف الجاحظ بحسنه، فإنه الماهر في البلاغة والخريت في
(١) الأبيات لأبى نواس في ديوانه ص ٢٨٣، ٢٨٤، وفي رواية الديوان «تدور علينا الكأس»، «فللخمر ما زرت عليه جيوبهم».