الباب الثاني في ذكر الدلائل الإفرادية وبيان حقائقها
  دون غيركم، وهكذا قوله {مِنْ دُونِ النَّاسِ}[الجمعة: ٦] فيه نهاية الاختصاص، فلما حصل تأكيد هذا الخطاب بهذه الأنواع من التوكيد، أتى بالنفي «بلن» لما بالغ في إتيانه بالغ في نفيه «بلن» وهذا كله دال على كونها موضوعة للمبالغة.
  الطريق الثالث هو أنه بالغ في ما نفى «بلن» بأن أكّده بقوله «أبدا» وفي هذا أعظم دلالة على أن وضعها للمبالغة في النفي، فهذه الطرق الثلاث كلها مقررة لما ذكره الشيخ من أن «لن» لتأكيد ما تعطيه «لا» من نفى المستقبل، فأما ابن الخطيب أبو المكارم صاحب التبيان فقد يتلكأ في قبول ما ذكرناه، وزعم أن الأمر على العكس مما أوردناه، وأن النفي «بلا» آكد من النفي «بلن» وقال: إن الزمخشري إنما ذهب إلى هذه المقالة بناء على مذهبه في الاعتزال، من نفى الرؤية واستحالتها على الله تعالى، وهذا خطأ منه، فإنا قد دللنا على كون «لن» دالة على مبالغة النفي بها في الأزمنة المستقبلة، ومن العجب أنه قال: إنما صار الزمخشري إلى ما حكيناه عنه لأجل الاعتزال، فليس الأمر كما زعمه، وإنما صار إليه للدليل الواضح من جهة نص الأدباء واستعمال أهل اللغة على ذلك، ومما يؤيد ما ذكرناه ويوضحه هو أن الله تعالى لما نفى «بلا» إدراك الأبصار عن ذاته بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ}[الأنعام: ١٠٣] أي المبصرون بالأبصار على جهة العموم والاستغراق في الأزمنة المستقبلة من غير مبالغة هناك وقال ردا لسؤال موسى حيث قال {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي}[الأعراف: ١٤٣] «فجاء بهذه اللفظة قطعا لطمع الرؤية وإحالة لها بكونه أجابه بما يفيد الاستغراق والتأبيد، واستقصاء الكلام في استحالة الرؤية من الأدلة النقلية يليق بالعلوم الدينية وقد أشرنا إليها في كتاب «النهاية» وبالله التوفيق.
  الصورة الخامسة [«لو»]
  ووضعها في الشرط للماضى كما كانت «إن» شرطا في المستقبل خلافا للفراء فإنه زعم أنها شرط في المستقبل كإن، وتطلب فعلين تعلق الثاني منهما بالأول تعليق المسبب بالسبب، فإن كانا منفيين لفظا فهما مثبتان من جهة المعنى، وإن كانا مثبتين لفظا فهما منفيان من جهة المعنى، وإن كان الأول مثبتا والثاني منفيا، أو بالعكس فهما في المعنى على المناقضة من لفظهما: لا يقال: فإذا كان الأمر كما قلتموه في «لو» فكيف يمكن تنزيل الحديث النبوي الوارد في حق «صهيب» في قوله # «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» فإنه إذا كان الأمر على ما قررتموه في «لو» كان حاصله أنه خاف الله فعصاه،