الباب الثالث في مراعاة أحوال التأليف وبيان ظهور المعاني المركبة
  أعدل الأزمان، قد شبه بسن الصبا في الأسنان، وفيها التفاح الذي رق جلده، وعظم قده، وتورد خده، وطابت أنفاسه، فلا بان الوادي ولا رنده، وإذا نظر إليه وجد منه حظ الشم والنظر، ونسبته من سرر الغزلان أولى من نسبته إلى منابت الشجر، وفيها العنب الذي هو أكرم الثمار طينة، وأكثرها ألوان زينة، وأول غرس اغترسه نوح # عند خروجه من السفينة، فقطفه يميل بكف قاطفه، ويغرى بالوصف لسان واصفه، وفيها الرمان الذي هو طعام وشراب، وبه شبهت نهود الكعاب، ومن فضله أنه لا نوى له فيرمى نواه، ولا يخرج اللؤلؤ والمرجان من فاكهة سواه، وفيها التين الذي أقسم الله به تنويها بذكره، واستتر آدم بورقه إذ كشفت المعصية من ستره، وخص بطول الأعناق، فما يرى بها من ميل فذاك من نشوة سكره، وقد وصف بأنه راق طعما، ونعم جسما وقيل هذا كنيف مليء شهدا، لا كنيف مليء علما، وفيها من ثمرات النخيل ما يزهى بلونه وشكله، ويشغل بلذة منظره عن لذة أكله، وهو الذي فضل ذوات الأفنان بعرجونه، ولا تماثل بينه وبين الحلواء فيقال: هذا خلق الله فأروني ما ذا خلق الذين من دونه، وفيها غير ذلك من أشكال الفاكهة وأصنافها، وكلها معدود من أوساطها لا من أطرافها، ولقد دخلتها فاستهوتنى حسدا، ولم ألم صاحبها على قوله «لن تبيد هذه أبدا». فما هذا حاله من الأوصاف يقال له إطناب، لأن كل صفة لم تخل عن فائدة جديدة.
  ومن الأمثلة الرائقة في الإطناب ما قاله ابن الأثير أيضا على جهة المقابلة لإيجاز كتاب طاهر بن حسين إلى المأمون لما هزم عسكر عيسى بن ماهان وقتله، وقد ذكرنا كتابه الذي أوجز فيه إلى المأمون فقال ابن الأثير مقابلا له بالإطناب فيه، وهو قوله: صدر الكتاب وقد نصرنا بالفئة القليلة على الفئة الكثيرة، وانقلبنا باليد الملأى والعين القريرة، وكان انتصاره بحد أمير المؤمنين لا بحد نصله، والجد أغنى عن الجيش وإن كثر إمداد خيله ورجله، وجيء برأس عيسى بن ماهان وهو على جسد غير جسده، وليس له قدم تسعى ولا يد فيقال يبطش بيده، ولقد طال وطوله مؤذن بقصر شأنه، وحسدت الضباع الطير على مكانها منه وهو غير محسود على مكانه، وأحضر خاتمه وهو الخاتم الذي كان الأمر يجرى على نقش أسطره، وكان يرجو أن يصدر كتاب الفتح بختمه فحال ورود المنية دون مصدره، وكذلك البغى مرتعه وبيل، ومصرعه جليل، وسيفه وإن مضى فإنه عند الضرب كليل، وقد نطق الفأل بأن الخاتم والرأس مبشران بالحصول على خاتم الملك