[القسم الثاني: حقوق المخلوقين]
القسم الثاني: الأسباب التي هي أقوال
  ولنذكر أمام تقسيمها والخوض في أبوابها أحكاماً تتعلق بجملتها فنقول:
  لما كانت المعاملة بين العباد والتزام الحقوق فيما بينهم وإسقاطها أمراً منبنياً على فعل قلبيٍّ وهو طيبة النفس ورضا القلب، كما نبه عليه الشارع(١)، وكان ذلك أمراً خفياً، أقام الشرع القول المُعَبِّر عما في النفس مقامه، وناط به الأحكام على ما اعتيد من إقامة الأمور الظاهرة المنضبطة مقامَ الحِكَم الخفية، وتعليق الأحكام بها.
  فرع: ولما كانت الأقوال أسباباً بطريق الخلفية، اشترط أن تَصْدُرَ عن قصد من المتكلم للنطق بها، لا عن غيره، مختاراً لإيقاعها، عالماً بمعناها جملةً، وعند عدم شيء من هذه الشرائط لا يثبت لها حكم.
  فرع: فلا حكم لها من الساهي ومن سبقه لسانه، ولا من الحاكي؛ إذ قَصَدَ النطق عن غيره، ولا من المكره على ما مر تحقيقه، ولا من الجاهل بمعانيها بالكلية، نحو: أن ينطق العجمي بلفظ الطلاق ونحوه جاهلاً لمعناه.
  قيل: إلا إذا قصد معناه جاهلاً معتقداً أنه ليس معناه فيقع حينئذ، وأما جهله بتفاصيل معانيها وشرائطها، فغير مانع من وقوع حكمها، نحو: أن يَنذُر بالدَّين جاهلاً وجوب تسليمه عليه، أو يبيع ما هو غائب جاهلاً وجوب إحضاره عليه.
  وإنما اشترط في الأقوال ما ذكرنا لأجل الخلفية، بخلاف الأفعال، فإنها أسباب بنفسها كالجناية ونحوها، فلم يُشترط فيها ذلك.
  فرع: ولمصير الأقوال أسباباً في أحكامها لم يشترط في الإنشاءات قصد معانيها الشرعية، حيث هي صريحة فيها، أي: موضوعة لها على الانفراد في لسان
(١) في حديث عن رسول الله ÷ يقول فيه: «ألا ولا يحل لامرئ من مال أخيه شيئاً إلا بطيب نفس منه» جزء من حديث أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (١٧٤/ ١)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٦٦٣٣)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (٩٧٩) وألفاظهم متقاربة.