معيار أغوار الأفهام في الكشف عن مناسبات الأحكام،

عبد الله بن محمد النجري (المتوفى: 877 هـ)

[القسم الثاني: حقوق المخلوقين]

صفحة 274 - الجزء 1

باب الهبة

  هي عقد تبرعٍ، فيه شبهة معاوضة؛ لأجل ما فيها من الضَّعة والمذلة، تنزيلاً لنقص العِرْض منزلة نقص المال، ومن ثَمَّ افتقرت إلى القبول كسائر عقود المعاوضة، كما تقدم تحقيقه.

  فرع: ولما فيها من تحمل الضَّعة والمذلة شبهها الشارع بالقيء، وحَرُمَ الاستيهاب لغير ضرورة؛ إذ ليس للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه وقد رفعه الله بالإيمان، كما أشار إليه الشارع⁣(⁣١)، ولذلك جاز التيمم والصلاة عارياً مع بذل هبة الماء والثوب، وجازت صلاة المطالَب بالدَّين مع بذل هبة ما يقضي دينه.

  فرع: ولكونها عقداً صح فسخه بالتراضي، وذلك بردِّ المتهب؛ إذ هو فسخ على الأصح لا تمليك فتتبعه أحكامه، وتعتبر فيه شرائطه، ولخلوه عن العوض الحقيقي بقي للواهب فيها حق ضعيف؛ لأجله يصح رجوعه في الموهوب، لكن لما لم تخلُ من شبهة العوض كان مكروهاً، ولذلك إذا كان فيها عوض حقيقي غَرَضاً كان أو مالاً امتنع الرجوع، إلا عند تعذره.

  فرع: ومن العوض قصد الثواب، سواء كان الموهوب له مسلماً أو ذمياً وأقيمت الرحامة مُقامَه؛ إذ هي مظنته، كما أقيم السفر مقام المشقة، فلا رجوع في الهبة للمحارم إلا هبة الوالد لولده الصغير؛ لشُبْهة الملك مع تأكُّدها بالولاية، فيخرج الكبير، وكذا الوالدة عند بعضٍ، فإن علم من الهبة لذي الرحم قصد غَرَضٍ غير القربة ثبت الرجوع عند تعذره؛ لبطلان المظنة بالمئنة؛ كما إذا وُهِبَ لله ولعوض.

  فرع: ولضُعف حق الواهب سقط حيث كانت إسقاطاً كهبة الحق والدَّيْن والعمل، والمنفعة لمن هي عليه، كما إذا وهب العمل للأجير، أو المنفعة لمالك العين.

  ولضعفه أيضاً سقط بزيادة العين أو استهلاكها حساً أو حكماً، وبخروجها عن الملك، وبكل تصرف أكسبها صفة زائدة كخياطة القميص، وغرس الشجر، والبناء في الأرض، وصبغ الثوب، لا زيادة المعاني كتعلم صنعة، وبرءٍ من مرض.


(١) بنحو قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}⁣[آل عمران: ١٣٩].