الضرب الثاني: الأفعال
  فأما إذا كان حق الآدميّ مشوباً بحق الله تعالى قُدِّمَ عليه كالقصاص على الرجم؛ إذْ شُرِع للزجر، ففي تقديمه رعايةٌ للحقَّين معاً.
  فرع: فيقام الحدُّ على الزوجة والمملوك، ولو فات حَقُّ الزوجِ والسيدِ، وعلى خادم الأبوين العاجزين، ومرضعة الصبيِّ ولو تضرَّرا، فإن خُشِيَ فوتُ مهجةِ الآدميّ قُدِّمَ حقُّه، كأن يُخْشَى على الأبوين والصبي التلفُ؛ لأن حرمة المهجة أعظمُ، ولذلك أُخِّرَ جلدُ المريض، وسَقَط حيث أُيِسَ من البُرءِ وخُشِيَ التلفُ، ووَجَبَ استبراءُ الزانية للرَّجمِ، وتأخيرُه حيث تبيَّنَ حملُها.
  وثالثهما: أن يكون حقُّ الله دَيانةً كالجهاد والأمر بالمعروف والفتوى والحكم والهجرة ونحوها، ويُعَبَّرُ عن هذا القِسْم بتعارض المصلحة العامة والمصلحة الخاصة.
  وللعلماء فيها اختلاف وهو مفروضٌ في تعارُض القصاص والجهاد، فقيل: يُقدَّمُ القصاص لتعيُّنه، ولئلا يسقط حقُّ صاحبه بحقِّ غيره، وقد ورد في الشرع تقديمُ حضانة الأطفال وخدمة الأبوين العاجزين على الجهاد والهجرة، وهو مما نحن فيه.
  وقيل: بل يقدَّمُ الجهاد؛ إذ بالمصالح العامة حفظُ أصلِ الدِّين وحفظُ المصالح الخاصة، وبفواتها تفوت المصالحُ الخاصة فكان تقديمها أولى، وقد ورد في الشرع تحريم الفرار من الزحف وإن ظُنَّ التلف؛ ولذلك قلنا بجواز قَتْلِ المؤمن إذا تترس به الكفار عند خشية الاستئصال وهذا مما نحن فيه.
  والتحقيق أن يقال: إن كان الجهاد لطلب الزيادة أو عند عدم التعيُّن فالمعتمد هو القول الأول لحجته المذكورة، وعلى ذلك يحمل ما ورد من تقديم الحضانة وخدمة الأبوين، وإن كان لحفظ الموجود والذبِّ عنه بحيث يخاف من تركه انطماسُ معالمِ الدين مع تعيُّنه على المكلف، فالمعتمد هو القول الثاني؛ إذ دفع المفسدة العامة أولى من جلب المنفعة الخاصة، ولذلك حَرُمَ الفرارُ وجاز قَتْلُ التِّرْس في المسألتين المذكورتين.