مجموع كتب ورسائل الإمام محمد بن القاسم الرسي،

محمد بن القاسم الرسي (المتوفى: 284 هـ)

باب موعظة العبرة

صفحة 216 - الجزء 1

  قال علي بن أبي طالب #: «فمن تأول الحكمة عرف العبرة»، وذلك أن ميراث تأويل الحكمة موعظة العبرة، وأهل الحكمة اعتبروا بالأمثال، وما ضرب الله لهم في كتابه من ذكر الأمم قبلهم، وما حركهم على الاعتبار به، وعلموا أن ذلك لا يتم لهم إلا بإصلاح قلوبهم وإلا فأقاموا قلوبهم مقام الماء المعين تحت الأرض، الذي لا يظهر إلا بكشط ما فوقه من التراب والحجارة. فنزعوا عن قلوبهم عند ذلك درن الذنوب المغطي لها بالتوبة الخالعة، وعلموا أن القلب كالنار التي إن أمدت بالوقود وإلا خمدت، وكذلك إن أمد بالفكر والاعتبار والفهم عن الله بضرب الأمثال وإلا عمى وطغى، فأقاموا أنفسهم عند ذلك في الاعتبار والإتعاظ والتيقظ بالفكرة، حتى كأنهم قد امتحنوا مع من امتحن من الذين نزل بهم من الله ما نزل، من القوارع والإستيصال، وفهموا ما أريد بهم من الأمثال، وما ذكروا من نعم الله عليهم ولطفه بهم، إذ وعظهم بغيرهم، ولم يكونوا هم عظة لغيرهم، فدام شكر نعم الله في قلوبهم، وحَسنُ بلاؤه عندهم، فلجأوا إليه عند كل خطرة ولحظة، وخافوه في السر والعلانية، فأرضوه بالقيام له في كل ما أمرهم به، وأستخطوا مَن دونه ليرضوه بسخطهم، إذ علموا أنه يملك ضرهم ونفعهم، وتحببوا إليه بأداء شكر نعمه، وما مَنَّ به عليهم، إذ لم يجعلهم عبرة لغيرهم، وجعلهم المعتبرين بغيرهم، فهم أولو الأبصار، كما قال الله في قضية بني النضير إذ أجلاهم النبي ÷ من ديارهم فقال: {يُخرِبونَ بُيوتَهُم بِأَيديهِم وَأَيدِي المُؤمِنينَ فَاعتَبِروا يَا أُولِي الأَبصارِ}⁣[الحشر: ٢]، يقول: إذ عصوني وكفروا نعمتي، فأبحت بذلك قتلهم وخراب ديارهم، كانوا هم القاتلين لأنفسهم، والمخربين ديارهم لمعصيتهم، يقول: فاعتبروا أنه