باب الشفق
  فهذا الإشفاق الذي هو من طريق خوف الذنوب، وذلك أن أهل المعرفة بالله عرفوا الله بالعظمة والقدرة وسوغ النعمة، وأعظموا حقه، وما يجب له على قدر ذلك، إذ كان أهل الدنيا تحب لهم ذلك على قدر إقتارهم وقدر أياديهم عند أهل صنعائعهم، فعبدوه على جهة التعظيم، وعلموا أنه أمرهم ونهاهم وافترض عليهم، وأنه لا يقبل منهم ولا يرضى إلا بكمال ما أمرهم به، إلا ما تفضل به على من أناب منهم من معصيته، وراجع إلى طاعته، وعرفوا أنفسهم بالتقصير في كل ما أمر هم به وأوجبه، ورجعوا عليها باللائمة، وعلموا أنهم لم يُؤتوا في ذلك إلا من قِبَل أنفسهم الأمارة بالسوء، وكادت عند ذلك تسيل أنفسهم إذا ذكروا تقصيرهم وإن كانوا تائبين منه، شدة إعظام لله وحياء منه، وأسفا على التفريط في طاعته، وما ضيعوا من واجب حقه، وإشفاقا ألا يكونوا أتوا من التوبة كُنْهَ ما استحقه وما حدَّه لهم، فإذا ذكروا نعمة الله عليهم، وإعذاره إليهم وكثرة تواتر النعم لديهم، كادت قلوبهم تذوب لكثرة الحجج عليهم، فهم بين نعمة من الله سابغة، وبين تقصير من أنفسهم، فعرفوا أنفسهم بحقائق المعرفة فلم يُؤمِّنوها لخير مقدم ولا متأخر، فكانت أنفسهم الأمارة بالسوء تستأهل عندهم الهتك والعقوبة لكثرة صدفها ونأيها عن المصير فيما خلقت له، وقطعها لهم بذلك عن الله وعن زيادات كراماته وفوائده المعجِّلة لثواب أعمالهم، ورأوا مع ذلك سبوع ستره عليهم عند كل تقصير كان منهم في كنه ما يجب من تأدية حق الله والتقرب إليه بمرضاته، فخافوا أن يكونوا عند الله من أهل الاستدراج، فهاج الخوف من قلوبهم وهو الإشفاق أن يكون عناؤهم وتعبهم باطلا، إن لم يكن أدوا إليه من التوبة والندامة كنه ما يستحقه، ولم يُعملوا أنفسهم بعد ذلك في التقرب إليه بالنوافل كما يحب، وعلموا أنه إن لم يتفضل عليهم بقبوله إياهم