باب شرح اليقين
  ومنهم من يفهم درجة الرجل إذا ذكر له وعرض عليه قوله، فيعرفه ويعرف منزلته بالوصف، وهذه الدرجة لا يتجاوز بها أهلها، وهم أعلا من الذين ذكرنا قبلهم.
  ومنهم قوم أعلا من هؤلاء درجة في التوسم، فهم يعتبرن الأشياء وما تؤول إليه عواقبها قبل وقوعها، قد تبطنوا من خفيات الأمور، والعلم بعواقب الدهور، ونتائج الأسباب، وما يؤول به بعضها فينظرون إليها كأنها رأي عين، فلا يخطئ توسمهم، وهم بعد ذلك مستغرقون بهذه الطبقات الثلاث التي هي دون مقامهم، وذلك أنهم علموا أن الله مؤيد من أطاعه، وخاذل من عصاه، فرأوا أهل التضييع مختلفة أقوالهم وأفعالهم، علموا عند ذلك أنهم ليسوا أعمال الله، وإذا رأوا أمور غيرهم تجري على اتساق علموا أنهم مؤيدون، وأنهم لله عاملون، لأن صفة عمال الله أنهم مؤيدون، فإذا أتاهم التأييد من الله والهداية والموعدة ثم كانوا لها قابلين، كانوا لمثلها لقبلوهم مستحقين، وليس من صفته جل ثناؤه قطع ذلك عنهم إذا تلقوه بالقبول والعمل به، إلا أن يضيعوا ما يجب عليهم فيه، ومتى أضاعوه سلبوا التأييد، وخلوا وما احتاروه بأنفسهم، فإذا رءاهم العاملون لله بهذه المنزلة من التقصير أو الفترة عما كانوا عليه، علموا بذلك أنهم ممنوعون بعض كرامات الله التي لا يقطعها، ثم حكموا عليهم فيما يرونه منهم من مباح أو محظور أو فسق أو كفر، لعلمهم بأحكام الله على مثلهم، إذ كانوا في مثل أحوالهم، وبذلك بانت منازل أنبياء الله $، إذ لم يطلع منهم في طول دهرهم على مناقضة في قول ولا فعل، ولا فساد في تدبير، ولا كذب في الأمور،