باب الصدق في المواطن
  فعل ذلك بالنظر منه لهم، وليعرضهم الصبر على ما أصابهم، ليستكملوا أبواب المطيعين في السراء والضراء والشدة والرخاء، فثبتت عزائمهم وصح يقينهم، وشروا لله عند ذلك أنفسهم، فصغر عندهم جميع الخلق، إذ علموا أن الله ناصرهم ومؤيدهم، كما ضمن لهم بقوله: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدامَكُم}[محمد: ٧]، فنهوا له عن كل معصية، وتجرعوا فيه كل غصة، وخاضوا فيه كل غمرة، ولم يرهبوا عند ذلك مخلوقا، ولم يقعدهم عن القيام بواجب حق الله كثرة عدو، ولا استحفال جمع، ولا تعاظم جبروته. فهذه صفة القائمين لله بحقه، من العالمين بباطن حكمته، وعظيم جبروته.
  وأما أهل العلم الظاهر فإنهم ينظرون بظاهر أبصارهم إلى ظاهر أهل الدنيا، وليس معهم معرفة الباطن من عظيم جلال الله وواجب حقه، ولذلك عظم عندهم شأن أهل الدنيا، وما رأوا من سلطانهم وظاهر سلاحهم وكثرة جمعهم، فيقع الظاهر من النظر على الظاهر من الدنيا فيدخله رهبة، لضعف علم باطنه ويقينه، فينتج له ذنب التقصير في أمر ربه، والتفريط فيه لخوف سطوة خلقه، كما قال الله جل ثناؤه: {وَمِنَ النّاسِ مَن يَعبُدُ اللَّهَ عَلى حَرفٍ فَإِن أَصابَهُ خَيرٌ اطمَأَنَّ بِهِ وَإِن أَصابَتهُ فِتنَةٌ انقَلَبَ عَلى وَجهِهِ ...}[الحج: ١١] الآية، فهذه صفة أهل الضعف والغفلة من علم أهل الظاهر، وقد قال الله تعالى: {يَعلَمونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنيا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ هُم غافِلونَ}[الروم: ٧]، وعن أنهم غفلوا مما أعد لهم من الثواب على صبرهم