مجموع كتب ورسائل الإمام محمد بن القاسم الرسي،

محمد بن القاسم الرسي (المتوفى: 284 هـ)

[الصفات الحميدة لأهل البوادي]

صفحة 390 - الجزء 1

  ويجود بما لا يجود به القروي من ماله، هذا مع إقبال أهل البادية على شغلهم، ومعايش أنفسهم وعيالهم، وافتراقهم في منازلهم ومحالهم.

  فكل إنسان منهم يمكنه أن يكون وحده، وأن يحجز حرمته عن الفساد وولده. وهذا ما لا يمكن يا بني في أهل القرى، ألا ترى أهل القرى لا يقدر بعضهم على الاعتزال عن بعض، لأنهم في سكك ودور وبناء، مع طيب البادية يا بني وصحة الأبدان فيها وغذائها، وطيب نسيم رياحها وصفا هوائها ومائها، وما فرش الله فيها بما لا يبلغه فرش الملوك من رمالها وبطحائها، التي ليست فيها ولا قربها أنتان الأنجاس، ولا يغشاها ولا يقر بها من لا حياء له ممن في القرى من غوغاء الناس.

  ومع ما في البادية يا بني من المناظر الحسنة من الشجر المختلف والنبات، والدواب من الوحوش الهاملات، وخلوة القلب بالفكر فيما وضع الله لخلقه من العبر والآيات، وما يرون فيها ويعاينون من الجبال التي نصبها الله الشوامخ الراسيات، وما في أهلها وسكانها من فصيح الكلام واللغات، ومعرفة من جاورهم بغريب العربية والبلاغات.

  مع ما في البادية يا بني من إمكان اتخاذ المواشي ذوات الأرحام، من الإبل والبقر والحمير والأغنام، التي لا يُتكلف لشيء منها كلفة، ولا يُؤتى لما جعل الله فيها من المعايش والغنى عن الناس على صفة، تكون للرجل بالبادية الناقة الواحدة فتصير نوقا كثيرة بالتناسل وإبلا، ويكون للرجل الشاة الواحدة والشاتان والخمس شياه فتعود بالتناسل في غير طويل من الزمان مالا وأغناما كثيرة، لا يتكلف صاحبها لها علفا ولا مؤنة، وقد تكون له البقرة أو الأتان من الحمير فيرزقه الله تناسلها ونتاجها حتى تصير مالا ذا عدد كثير، والشاة الواحدة والناقة المفردة لا يُقوى عليها ولا على علفها ومؤنتها في مدينة ولا قرية، لما يلزم لها وفيها من الغرامة والنفقة الثقيلة، فليس شيء مما ذكرنا مما