(ومن سورة حم عسق)
  المذكور ليس هو إقلال عيدان الفلك وألواحها وحده، ولكنه تسليم الله وحمله بالسلامة في هول البحار عبيده، إذا عظم ما رأى ونظر من عظيم الفلك والسفن الكبار، مع عظيم البحر وكبره وعتو أمواجه كالذباب الصغير الطائر الذي يمر طائرا حقيرا في سعة الصحاري والقفار، فبرحمة الله القدوس جل وتعالى نجوا، وبحملانه لهم بالخروج من البحر ظفروا، وإلى حين ما موقوت من آجالهم ما أمتنعوا بالحياة واخرجوا، لقول الله سبحانه بعد ذكرها ما ذكَّر به العباد من هذه النعم، وهو يخوفهم - لا إله إلا هو - العقوبة فيما خَلْفهم من الذنوب، ومحذراً لما بين أيديهم إن لم يتقوه من الخطايا والحوب: {وَإِذا قيلَ لَهُمُ اتَّقوا ما بَينَ أَيديكُم وَما خَلفَكُم لَعَلَّكُم تُرحَمونَ}، يعني سبحانه: فلا تعاقبون إذا تبتم واتقيتم إذا جزتم من ماضي الذنوب فخلفتم وراءكم إذا تبتم، و {ما بَينَ أَيديكُم}، فالاتقاء للذنوب فيما يستقبلون التي ترديهم، {وَما خَلفَكُم} فهو ما مضى في الخطايا وفات منهم، والتوبة التي هي الاتقاء فهي التي تتقى بها الخطايا فيما خلفهم وبين أيديهم، فلما انتهى الخبر إلى قوله سبحانه: {لَعَلَّكُم تُرحَمونَ}. ولم يذكر عنهم جواباً ولا طاعة، علم أنه إذ لم يذكرهم بالرضى ساخطٌ عليهم، لإغفالهم اتقاء ما بين أيديهم وما خلفهم، وهذا من مفهوم الكلام عند العرب وأبلغ الاختصار، والمعقول بالمعنى الظاهر منه باطن الإضمار.
  ثم ذكر سبحانه إعراضهم عن الآيات، التي نزلها على نبيه وما يريهم منها في آفاق السماوات، فقال: {وَما تَأتيهِم مِن آيَةٍ مِن آياتِ رَبِّهِم إِلّا كانوا عَنها مُعرِضينَ}. وذكر - لا إله إلا هو - بخلهم عن الإنفاق مما رزقهم،