مجموع كتب ورسائل الإمام محمد بن القاسم الرسي،

محمد بن القاسم الرسي (المتوفى: 284 هـ)

(ومن سورة حم عسق)

صفحة 490 - الجزء 1

  ثم قال سبحانه على الكافرين محتجاً بالحجة والبرهان، ومُوقِفا ومُنَبِّها لغفلة هذا الإنسان، فيما استعظم من التجديد بعد البلى لميت الأبدان: {أَوَلَم يَرَ الإِنسانُ أَنّا خَلَقناهُ مِن نُطفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصيمٌ}؟! أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة مذرة، خارجة من قذاة النجاسة، فإذا هو خصيم مبين، فذكر الإنسان بما لا يُنكر ولا يقدر على جحده، بل هو مقر من خلقه من نطفة.

  والنطفة في اللسان، القطرة الصغيرة القليلة عند العرب من معروف البيان، وقد يدور ذلك بينهم كثيراً، يقول القائل إذا ظمئ وعطش وقل الماء في السفر إذا طلب ماء يسقاه من رفيق أو غير رفيق، وكان الماء عزيزا غير موجود: يا هذا أسقني نطفة قليلة، يريد: قطرة من الماء حقيرة غير كثيرة، وكذلك تقول العرب في وصف ما في السقاء والوعاء، إذا ذهب ماء القربة أو الوعاء، فلم يبق منه إلا الصبابة القليلة: ما بقي في القربة أو غيرها إلا نطفة، يريدون: قطرة في التقليل قليلة.

  فذكَّر الله الإنسان، بعجب عجيب من الشأن، في قدرته على خلقه من أقل القليل، من النطفة والماء المهين الذليل، مبتدئاً له ومخترعاً، والنطفة فهي النطفة في بنيتها، وضعفها ووهنها ومهانتها، لا روح فيها ولا حياة، ولا أعضاء ولا صورة مهياة، ثم أخرج منها مع ضعفها وقلتها بدناً وأعضاء عجيبة في تأليفها وترصيفها فيها، مع ما فيها من الحواس الخمس، من البصر والسمع والشم والمذاقة واللمس، وما هو أعجب من ذلك كله، مما لا تحس هذه الحواس إلا به، من النفس والعقل، وما صارت تلك النفس إليه من العقل، فبينما هي نطفة لا تعقل إذ صارت إنساناً خصيما، يقبل ويدبر، ويسمع ويبصر، ويشم ويذوق، ويلمس وينطق، ويخاصم مبيناً في خصومته.

  فأي آية أدل لهذا الإنسان على قوة الله وقدرته؟! على إحيائه وتجديد رميم عظامه بعد موته؟! [و] ما أراده من عجيب الآئه والدلالة على قدرته، في