فتح الوصول شرح جواهر الفصول في علم الأصول،

الحسن بن إسماعيل الحسني (المتوفى: 1270 هـ)

فصل في النسخ

صفحة 291 - الجزء 1

  اعلم أن مختار أكثر أئمتنا والجمهور: أن النسخ جائز، ولو خلا عن قدم الإشعار به، أي وإن لم يقع الإشعار به أوّلًا: بدليل وقوعه، فإن أكثر النسخ واقع بدونه، وقال الشيخ الحسن وابن الملاحمي، وأبو الحسين: (وهو أول من أحدث هذا القول) إنه لا يجوز بدونه، والظاهر الدوام، فلو لم يكن إشعاراً لكان قد لَبَّسَ على المكلف وحمله على اعتقاد دوامه، وهو جهل لا يجوز على الله الإغراء به، قُلْنَا: لا نسلم الدوام؛ لأن لفظ الأمر لا يقتضيه لا لغة، ولا شرعًا، ولا عرفًا عامًّا، ولا خاصًّا بأهل الشرع، فإذا اعتقد دوامه لغير دليل فقد أُتىَ من قبل نفسه، لا من قبل الله تعالى، قوله - غفر الله له -:

  ٥٨١ - ونسخُ ماقُيِّدَ بالتأبِيْدِ ... يَجُوزُ إِذْ لَا حُكْمَ لِلْتَّقْيِيْد

  أشار إلى ما هو المختار عند الجمهور من جواز نسخ ما قيد بالتأبيد نحو: أن يقال: صوموا أبدًا، وذلك لأن الفعل يعمل بمادته، والوجوب مستفاد من الهيئة، فالتأبيد قيد فيما به العمل لا غيره، وذلك فيما كان التأبيد قيدًا للفعل، كما مثلنا نصًا، وكذا إن كان ظاهرًا محتملًا نحو: صوم رمضان يجب أبدًا، فإن الظاهر كونه ظرفًا للوجوب، ويحتمل أن يكون ظرفًا للصوم، أي كونه مقيدًا للحكم محتملًا لخلافه، ففي هذه الصورتين يجوز النسخ عند الجمهور، فَأَمَّا إذا كان تأبيد وجوبه نصًا كأن يقال: وجوب الصوم مؤبد لم يجز نسخه اتفاقًا، وذهب بعض المتكلمين والجصاص⁣(⁣١) والماتريدي والدبوسي من الحنفية إلى منع نسخه مطلقًا. قالوا: لأن معنى التأبيد الدوام والنسخ ينافيه ويقطعه، فكان مناقضًا، فلا يجوز على الله. قلنا: لزوم التناقض في موضع الخلاف ممنوع لما بيناه فيما نص على تأبيد الحكم واستمراره، ولا خلاف في منع نسخه. قالوا: نسخ وجوب الصيام المؤبد يجعله غير مؤبد؛ لأنه إذا لم يجب جاز تركه، فلا يدوم، فيكون مبطلًا لِنُصُوصِيَّةِ تأبيد الفعل كتأبيد الحكم. قلنا: نسخ الوجوب المؤبد يستلزم اجتماع الحسن والقبح في زمن واحد، ولو في بعض أزمنة الأبد بخلاف نسخ الفعل المؤبد لاحتمال أن يكون من الوجوب في غير زمن الفعل على أن الفعل المؤبد إذا لم يلاحظ معه الحكم الشرعي لا يتصور نسخه، فكيف يستلزم نسخ وجوبه بنسخه.


(١) رازي الحنفية: هو أحمد بن علي أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص سكن بغداد وكان إمام أصحاب أبي حنيفة في وقته، توفي يوم الأحد سابع ذي الحجة سنة سبعين وثلاثمائة، طبقات الحنفية ١/ ٨٤.