حد العلم والدليل وتعريف العقل والنفس عند أهل المنطق
  والجزئيات المجردة هو العقل، ومدرك الجزئيات المادية هو القوى الجسمانية، وهو رأي محققي الحكماء، ووجه بناء الحد على رأيهم كون إطلاق لفظ العلم على هذا المعنى الأعم. واقعًا على اصطلاحهم، وفيه مع ذلك أن العقل إن أريد به المشهور من اصطلاحهم وهو أنه: (جوهر مجرد غير متعلق بالبدن) لم يشمل علم الله سبحانه وعلم الإنسان، وإن أريد به النفس وَهِيَ عندهم: «جوهر متعلق بالبدن لم يشمل علمه تعالى، وفيه أيضًا أنه يخرج عنه العلم بالمستحيل فإنه ليس بشيءٍ اتفاقًا، والقول بأن العلم لا يتعلق به مكابَرة لبديهة العقل، فإن كل عاقل يجد من نفسه الحكم باستحالة اجتماع الضدين والنقيضين، بل العلم بمطلق المعدوم على القول بأنه لا يسمى شيئًا، وقد يعتذر عن هذا بأن المستحيل والمعدوم يسمى شيئًا لغةً، فلا يخرج العلم بهما عن التعريف، ولو عرف بما يحصل من المعنى المدرَك (بفتح الراء) للمدْرِك (بكسرها) لسلم عما ورد على تعريف الحكماء مع العناية في إصلاحه» انتهى كلامه. واعلم أن للعلم حدودًا كثيرة أعرضنا عنها؛ لما عليها من الإيرادات، وإنما حُدَّ هنا بالمعنى الأعم ليكون أشمل، وقول الناظم: إِنْ كَانَ هُوَ الإِذعانُ ... إلخ: أي اعتقاد النسبة خبريةً ثبوتية: كاعتقاد أن زيدًا قائمٌ، وقد مثل الناظم بقوله: جاءني عُثمانُ، أو سلبية: كاعتقاد أنه لم يجئ فإنه التصديق، فالعلم تصديق أي يسمى تصديقًا، والمراد بالإذعان: إدراك النسبة على وجه يطلق عليها اسم التسليم والقبول، سواء كان إيجابًا أو سلبًا، والإدراك المذكور بهذا الوجه هو الحكم، فالتصديق هو الحكم على ما ذهب إليه الحكماء، وذلك أنهم جعلوا أجزاء القضية ثلاثة: المحكوم عليه والمحكوم به، وتصور النسبة التامة الخبرية، فلا يتحقق التصديق إلا بتصور هذه الأجزاء الثلاثة على انفرادها، والعلم التصديقي على هذا هو الحكم بالنسبة سواءً كانت إيجابًا أو سلبًا.
  وأما الإمام الرازي(١) فقد جعل التصديق الإدراكات الأربعة، تصور المحكوم عليه كزيد، وتصور المحكوم به، كقائم، وتصور النسبة الحكمية التي هي بين المحكوم عليه وبه والتصور الذي هو الحكم أعني: هذا المجموع من حيث هو مجموع، فيكون التصديق على مذهبه مُرَكَّبًا، وعلى مذهب الحكماء بسيطًا، والمتأخرون جعلوا الأجزاء أربعة: الموضوع، والمحمول، والنسبة التقييدية، ووقوعها أَوْ لَا وقوعها، وجعلوا مورد التصديق الإيقاع أو الانتزاع، والحق ما ذهب
(١) الرازي: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن الرازي المعروف بابن الخطيب الرازي أصولي أشعري، له المحصول في أصول الفقه، ت (٦٠٦ هـ) وفيات الأعيان ٣/ ٣٨١.