تقديم الخبر على القياس
  اعلم أنه إذا تعارض الجرح والتعديل فالراجح أن الجارح أولى وإن كَثُرَ المعَدِّل ورَفْعُ المفصِّل: إما على القطع: على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو المفَصِّلُ، أو على حد قوله: وإنَّ لَها في كل جارحةٍ نَصْلُ: فهو وصف كاشف للمخصص، وإنما كان الجارح أولى لأن في الجرح زيادةً لم يطلع عليها المعدِّل، وذلك أن الجارح لا ينفي مقتضى التعديل في غير صورة التعيين جمعًا بينهما، إذ غايته قول المعدل: إنه لم يعلم فسقًا ولم يظنه فيظن عدالته، والجارح يقول: أنا علمت فسقه، والحكمُ بعدم الجرح حكمٌ بتكذيب الجارح، والحكمُ بالجرح حكم بتصديقهما جميعًا، هذا إنْ أَطْلَقا، أو عَيَّنَ الجارحُ السببَ، ولم ينفه المعدل بيقين، أَمَّا إذا نفاه المعدَّل يقينًا، كأن يقول الجارح: هو قتلَ زيدًا يوم كذا، فيقول المعدل هو حي، ورأيته بعد ذلك اليوم؛ فيقع بينهما التعارض، لعدم إمكان الجمع بينهما، وحينئذ يرجع إلى الترجيح بينهما بأمر خارج.
  واعلم أن مقام التصحيح والتضعيف والتعديل والتجريح من مواطن الاجتهاد والنظر، وأنه لا يحل التقليد لمن أمكنه ذلك والله سبحانه أعلم، قوله:
  ١١٩ - وهكذا الإجمالُ يكفيْ فِيْهِمَا ... مِنْ عَارِفٍ يَدْرِيْ بِأَسْبَابِهِمَا
  اعلم أنه ذهب أئمتنا $ والجويني(١) والباقلاني(٢) والرازي والغزالي(٣): إلى أنه يكفي الإجمالُ في الجرح والتعديل مِنْ عارف بأسبابهما، لأن الجاهل لا يُؤْمَنُ أن يعتقدَ في شيء أنه جَرْحٌ وليس به، أو يعتقدَ أن العدالة لا تسقط بشيء وَهِيَ تسقط به، فلابد من التفصيل لهما، قوله:
تَقْدِيْمُ الخْبَرِ عَلَى القِيَاسِ
  ١٢٠ - ثُمَّ مُخَالِفُ القياسِ يُقْبَلُ ... كما مُخَالِفُ الأُصُوْلِ يَبْطُلُ
  اعلم أنه متى تعارض الخبر والقياس، فعند أئمتنا $ والشافعي ¥ وأكثر أصحابه وأكثر الحنفية وأبي عبد الله البصري: أنه يُقْبَلُ الخبرُ المخالفُ للقياس مِنْ كلِّ وجهٍ، فُيْبطلُهُ، ويُقَدَّمُ عليه، لحديث معاذ (سيأتي في القياس إن شاء الله)، وهو أنه لما جاءه
(١) الجويني: إبراهيم بن محمد بن المؤيد الخراساني، شافعي، (ت ٧٢٢ هـ)، أعلام الزركلي ٣/ ١١٧.
(٢) أبو بكر الباقلاني: القاضي: أبو بكر بن الطيب الباقلاني، أشعري، تاريخ بغداد ٥/ ٣٧٩.
(٣) الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي مات زيديا حكاه ابوالرجال في مطلع البدور، أصولي ولد سنة ٤٥٩، ت ٥٠٥ هـ وفيات الأعيان ٣/ ٣٥٣.ل