فصل: في ذكر صفات الله العلى وأسمائه الحسنى
  وأيضاً لو فرض تأثيرها مع استحالته لكان تأثيرَ(١) اضطرارٍ، ووجود الحكمة في العالم وصنوفه تنافيه(٢) كما مرت الإشارة إلى طَرَفٍ من ذلك.
  فإن قيل: كيف تزعمون أن النطفة تصير بشراً بالصانع القادر ونحن نرى أن الولد لا يحصل إلا بعد اجتماع الذكر والأنثى وحصولِ النطفة في قرار الرحم، فإن كان الله تعالى خلقه فلِمَ لمْ يخلقه الله من غير هذا السبب؛ لتكون الدلالة أقوى؟
  والجواب - والله الموفق -: أنه قد ثبت بالأدلة القاطعة المضطرة لأهل العقول أن الله سبحانه هو المركِّب للجنين والمصوِّر له كيف يشاء؛ لما اشتمل عليه من دقائق الحكمة التي تبهر العقول.
  والذي يصلح أن نبين هاهنا وجهُ الحكمة في إجراء ما أجراه الله من العادة وإن كان لا يلزمنا ذلك؛ لأنه إذا ثبت أن الله تعالى حكيم فلا يلزمنا معرفةُ وجهِ الحكمةِ في جميع مخلوقاته، فنقول: إن الحكمة فيه من وجوه:
  منها: أنه تعالى لو خلق البشر من غير هذا الوجه لبطل التعارف بالأنساب؛ لأن التعارف بين الناس يحصل أكثره بأن يقال: فلان بن فلان، ولو خلق ابتداءً لبطل هذا التعارف، وفي بطلانه سقوط المعاملات والمصالح الكبيرة بين الناس.
  ومنها: لو لم يكن تَوَالُدٌ لبطلت صلة الرحم، وزال تعطف القرابات والتناصر للأرحام الواشجة(٣)، فيبطل تلذُّذ الآباءِ بالأبناء، وتعزُّز الأبناء بالآباء، وفي هذا زوال مصالح كثيرة من العالم يطول تفصيلها.
  ومنها: أن العاقل قد أُمِرَ بالتواضع واجتناب الكبر، وأجريت العادة على ما يكون أدعى إلى التواضع، لأن العاقل إذا علم أنه خُلِقَ من نطفةٍ قذرة وسار في مخرج البول مرَّةً بعد مرةٍ ونشأ من نجاسة يتغذى منها ونبت لحمه وعظمه منها - كان هذا كاسراً لِشِرَّتِه.
(١) في (أ): لكان تأثيرها تأثير اضطرار.
(٢) في الأصل: ينافيه.
(٣) الواشجة: الرحم المشتبكة المتصلة. (المعجم الوسيط).