[ذكر محل العقل وماهيته والخلاف في ذلك]
  فهذا أجلى مما بعده؛ ولهذا ربما تجده حصل لغير المميز من الأطفال، بل للبهيمة، فإنها إذا شاهدت من تهددها فرت من جهته؛ لعلمها بتعلق الفعل به، ونحو ذلك، ففيه من القوة والجلاء ما ليس فيما بعده.
  وسادسها: العلم بمقاصد الْمُخَاطِبِيْن فيما تجلَّى وظهر دون ما لطُف وغمُض، فهذا العلم أقوى مما بعده وأجلى، فإنه ربما فهمه الرضيع والبهيمة عند الزجر والدعاء، ألا ترى أن كثيراً من البهائم والكلاب إذا دُعيت باسمها أقبلت تهرول، فلولا علمها أن صاحبها قصد بدعائه إقبالها إليه ما فعلت ذلك، ونحو ذلك كثير.
  وسابعها: الأمور الجلية قريبة العهد، كعلم الإنسان عقيب تعشيه أو تغديه ما كان طعامه وإدامه، وعلمه عقيب خروج جليسه عنه أنه كان عنده، وما حاوره به من الجليات، ونحو ذلك.
  وثامنها: العلم بالخِبْرِيَّات، كانكسارِ الزجاج بالحجر، واحتراقِ القطن بالنار، لكن هذا لا يعد من كمال العقل إلا بعد وقوع الاختبار ومعرفة استمرار ذلك. قال ابن مَتَّوَيْه(١): ويصح فيما يستند إلى الخِبْرَةِ أن يوجده الله فينا ابتداءً، أي: من دون تقدم خبرةٍ، كما أوجده في عيسى # وهو في المهد.
  وتاسعها: العلم بقبح القبيح ووجوب الواجب العقليين، كالظلم والكذب والعبث، وقضاء الدين ورد الوديعة وشكر المنعم، فمن لم يعرف قبح هذه القبائح ووجوب هذه الواجبات فليس بعاقل. قال الإمام المهدي #: وفي كون هذا التاسع آخرَ علومِ العقل خلافٌ بين الشيوخ.
  وعاشرها عند أبي علي(٢): العلم بِمُخْبَرِ الخبر المتواتر، فإنه عنده من جملة علوم العقل لا يتم عقلُ عاقلٍ من دونه. وعند أبي هاشم ليس من علوم العقل إلا بعد
(١) أبو محمد الحسن بن أحمد بن متويه، أخذ عن القاضي، له كتب مشهورة كالمحيط في أصول الدين، والتذكرة في لطيف الكلام. من الطبقة الثانية عشرة من المعتزلة. (المنية والأمل باختصار).
(٢) أبو علي الجبائي، محمد بن عبدالوهاب الجبائي، معتزلي من الطبقة الثامنة، إليه تنسب الجبَّائية من المعتزلة، كان معروفاً بقوة الجدل. توفي سنة ٣٠٣ هـ، من معتزلة البصرة. (المنية والأمل باختصار).