فصل في السنة وأقسامها
  من عارف بمعاني الألفاظ يضبط المعاني في ذهنه بحيث لا يزيد ولا ينقص سواءً كان بلفظ مرادف أو لا، وسواءً نسي اللفظ أو لا، هذا محصل كلامهم وسيأتي الكلام عليه، وقال ابن سيرين(١) وابن عمر وثعلب وأبو بكر الرازي وبعض المحدثين والظاهرية: لا تجوز بالمعنى، بل باللفظ فقط، وحجتهم، قوله ÷: «نَضَّر اللهُ امرءًا»، وروي: رَحِمَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»(٢) وهذا حث على النقل كما سمع، ولوجوب نَقْل ما تُعُبِّدْنَا بلفظه باللفظ، فكذلك يكون حكم جميع الآثار، ولأنه لو جاز النقل بالمعنى وتبديل اللفظ لجاز ذلك للراوي ثم للراوي عنه ثم كذلك إلى ما لا نهاية له، إذ لا مخصص لأحدهما عن الثاني فيؤدي ذلك إلى خروج الخبر عن معناه؛ لأن كل ناقل قد ينقص القليل ثم كذلك، فيكون ذلك كمن أخذ حصاة ثم طرحها وأخذ مثلها، فإن آخر حصاة يلقطها لو قيست بالأولى لكان بينهما تفاوت كبير، وَأُجِيْبَ بأن الحديث إنما دل على الدعاء لمن حفظه إلى أن يُبَلِّغَهُ إلى غيره، فهو حث له على الأولى، ولم يمنع تأديته بالمعنى، مع أن الحديث في نفسه مروي بالمعنى فإنه روي (نَضَّرَ) مخففا ومشدَّدًا و «رَحِمَ»، وأما التجويز فغير محل النزاع فإن المفروض أن المنقول معنى لفظ النبي ÷ لا قول الراوي، وأما ما تعبدنا بلفظه فلقيام الدلالة على تأديته بلفظه، لأنه المقصود أولًا، وبالذات، ثُم نعود إلى ما وعدنا به فنقول: أن أهل القول بتجويز الرواية بالمعنى مطلقًا، أي سواءً كان مرادفًا مثل: بالله وتالله أو غيره، مثل: فلان مسلم فلان غير كافر وسواءً حصل نسيان أم لا، فقال الخطيب(٣): يجوز بلفظ مرادف فقط، وقال الماوردي(٤): إن نسي اللفظ فقط. [وقال] بعض الحنفية يجوز إن كان له معنى واحد وإلا فلا، وقال أبو جعفر صاحب «الكافي»: إن تعبدنا بلفظه فكما تقدم، أي لم يَجُزْ روايته بالمعنى، وإن لم نُتعبدْ ولم يكن راويه عارفًا، فكذلك وإن كان عارفًا فإما أن يكون اللفظ محتملًا لأكثر من معنى
(١) ابن سيرين: هو محمد بن سيرين أحد التابعين روى عن كثير من الصحابة قال الذهبي: كبير العلم ورع بعيد الصيت، توفي ١١٠ هـ.
(٢) الترمذي ٥/ ٣٤ رقم (٢٦٥٨)، وابن ماجة ١/ ٨٦ رقم (٢٣٦)، وأحمد ٤/ ٨٠ رقم (١٦٧٨٤)، و الدارمي ١/ ٨٦ رقم (٢٢٧).
(٣) الخطيب: أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، محدث، مؤرخ، (ت ٤٦٣ هـ)، أعلام الزركلي ١/ ١٧٢.
(٤) الماوردي: هو القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري قال الخطيب: كان ثقة من وجوه فقهاء الشافعية، له مؤلفات عدة. وكان يوافق المعتزلة، توفي سنة ٤٥٠ هـ طبقات الشافعية ٢/ ٢٣٠.