باب المجمل والمبين
  يلزم من ذلك التكليفُ من الباري (جل وعلا) لنا بما لا نعلم، وهو تكليف بما لا يطاق، وذلك قبيح لا يجوز مِنْهُ تعالى إلا عند من يقول بجواز تكليف ما لا يطاق، فإنه عندهم جائز غير واقع. ولدناءة مذهبهم لم يُعْتَدَّ به، وقد فهم مِنْهُ جواز تأخير البيان من الرسول ÷ إلى وقت الحاجة، إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال، ولو صُرح به لم يمتنع ذلك، وأيضًا القصد المصلحة وَهِيَ تحصل تقدم أو تأخر إلى وقت الحاجة، والله أعلم، قوله غفر الله له:
  ٥٦٤ - وَإِنْ يَكُنْ عَنْ زَمَنِ الخِطَابِ ... فَجَائِزٌ عِنْدَ ذَوِيْ الأَلْبَاب
  ٥٦٥ - فِيْ الأمرِ والنهي ويكفي مَنْ سَمِعْ ... البحثُ عَنْ بَيَانِ حُكْمٍ قد شُرِعْ
  ٥٦٦ - وَلَا يَجُوزُ ذَاكَ فِيْ الأَخْبَارِ ... وَقِيْلَ بَلْ جَازَ بِلَا إنْكَار
  أشار إلى ما هو المختار من جواز تأخير البيان، إذا كان ذلك عن زمن الخطاب إلى وقت الحاجة إليه، لكن في الأمر والنهي لأنهما إنشاء، ولوقوعه، كآية الصلاة والزكاة ولم يقترن به البيان، بل أَخَّرَ بيانُ أفعال الصلاة وأوقاتها إلى أن تبين لجبريل #، ثم بينه جبريل للنبي ÷ ثم بينه ÷ لغيره من المكلفين، وكذلك الزكاة والحج فإنه ÷ لم يزل يبين ذلك على التدريج شيئًا فشيئًا كما ذلك معلوم، ولأنه نزل قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام: ١٤١] في مكة، وقدر الحق مجمل، ولم يبين إلا حيث بينت الزكاة في المدينة، احتج المانعون باستلزامه العبث في المجمل والتلبيس في الظاهر، بَيَانُهُ: أن الخطاب في المجمل من دون بيان خطاب بما لا يستفاد مِنْهُ شيء أصلًا، وذلك ظاهر في العبثية، وأن الخطاب بالعام يستفاد مِنْهُ شموله، فلو أريد به بعض ما تناوله دون البعض الآخر من دون بيان للمراد لكان تلبيسًا لاعتقاد المخاطب شموله وهو غير شامل، وذلك قبيح لا يجوز.
  وَأُجِيْبَ: بمنع العبثية: فإن الإجمال كثيرًا ما يقصد لغرض صحيح، ولذلك وجه المفسرون تقديم الإجمال في قصة أم كَحَّة الآتي وتأخير التبيين؛ لأن الِفطَامَ عن المألوف شديد، والتدرج من دَأْبِ الحكيم، وَبمَنْع(١) التلبيس، فإن العلم بجواز تأخير التخصيص إلى وقت العمل يمنع عن الإقدام على اعتقاد استغراق العام عند سماعه، بل الشك يمنع من ذلك، فكيف إذا علم أو ظن ورود التخصيص من بعد الأمارة، وَهِيَ كَثْرَةُ التخصيصات
(١) قوله: وبمنع التلبيس: عطف على قوله: بمنع العبثية.