جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع،

أحمد الهاشمي (المتوفى: 1362 هـ)

المبحث الثالث في المساواة

صفحة 188 - الجزء 1

  وهناك أنواع أخرى من الإطناب، كما تقول في الشيء المستبعد: رأيته بعيني وسمعته بأذني، وذقته بفمي: تقول ذلك لتأكيد المعنى وتقريره. وكقوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}⁣[النحل: ٢٦] السقف لا يخر طبعا إلا من فوق ولكنه دل بقولهم (من فوقهم) على الإحاطة والشمول.

  واعلم: أن الإطناب أرجح عند بعضهم من الإيجاز، وحجته في ذلك أن المنطق إنما هو البيان، والبيان لا يكون إلا بالإشباع والاشباع لا يقع إلا بالإقناع وأفضل الكلام أبينه.

  وأبينه أشده إحاطة بالمعاني. ولا يحاط بالمعاني إحاطة تامة، إلا بالاستقصاء والإطناب.

  والمختار: أن الحاجة إلى كل من الإطناب، والإيجاز، ماسة: وكل موضع لا يسد أحدهما مكان الآخر فيه. وللذوق السليم القول الفصل في موطن كل منهما. (١)

المبحث الثالث في المساواة

  المساواة: هي تأدية المعنى المراد: بعبارة مساوية له⁣(⁣٢)، بأن تكون الألفاظ على قدر المعاني، لا يزيد بعضها على بعض.

  ولسنا بحاجة إلى الكلام على المساواة، فإنها هي الأصل المقيس عليه، والدستور الذي


(٢). المساواة هي ما ساوى لفظه معناه بحيث لا يزيد أحدهما على الآخر، وهي نوعان:

الأول: مساواة مع الاختصار، وهي أن يتحرى البليغ في تأدية المعنى أوجز ما يكون من الألفاظ القليلة الأحرف الكثيرة المعاني. كقوله تعالى: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ}. وكقوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}.

والثاني: مساواة بدون اختصار «ويسمى متعارف الأوساط» وهو تأدية المقصود من غير طلب للاختصار.

كقوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ}.

والوجهان في المركز الأسمى من البلاغة غير أن الأول أدخل فيها وأدل عليها.

والمساواة فن من القول عزيز المثال تشرئب إليه أعناق البلغاء لكن لا يرتقي إلى ذراه إلا الأفذاذ لصعوبة المرتقى، وجلال المقصد، والمساواة يعتبرها بعضهم وسطا بين الإيجاز والإطناب، وبعضهم يدمجها، ولا يعدها قسما ثالثا للإيجاز والإطناب.