المبحث الخامس في تقديم المسند إليه
المبحث الخامس في تقديم المسند إليه(١)
  مرتبة المسند إليه: التقديم وذلك لأنّ مدلوله هو الذي يخطر أولا في الذهن، لأنه المحكوم عليه، والمحكوم عليه سابق للحكم طبعا. فاستحقّ التقديم وضعا، ولتقديمه دواع شتى.
(١). معلوم: أن الألفاظ قوالب المعاني. فيجب أن يكون ترتيبها الوضعي حسب ترتيبها الطبيعي. ومن البين أن (رتبة المسند إليه التقديم) لأنه المحكوم عليه، ورتبة المسند التأخير، إذ هو المحكوم به، وما عداهما فهو متعلقات وتوابع تأتي تالية لهما في الرتبة ولكن قد يعرض لبعض الكلم من المزايا والاعتبارات ما يدعو إلى تقديمها، وإن كان من حقها التأخير فيكون من الحسن إذا تغيير هذا الأصل واتباع هذا النظام ليكون المقدم مشيرا إلى الغرض الذي يؤدي إليه، ومترجما عما يريد. ولا يخلو (التقديم) من أحوال أربع:
الأول: ما يفيد زيادة في المعنى مع تحسين في اللفظ وذلك هو الغاية القصوى وإليه المرجع في فنون البلاغة، والكتاب الكريم هو العمدة في هذا. انظر إلى قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ} تجد أن تقديم الجار في هذا قد أفاد التخصيص وأن النظر لا يكون إلا للّه، مع جودة الصياغة وتناسق السجع.
الثاني: ما يفيد زيادة في المعنى فقط نحو {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} فتقديم المفعول في هذا لتخصيصه بالعبادة، وأنه ينبغي ألا تكون لغيره، ولو أخر ما أفاد الكلام ذلك.
الثالث: ما يتكافأ فيه القديم والتأخير، وليس لهذا الضرب شيء من الملاحة كقوله: [الطويل]
وكانت يدي ملأى به ثم أصبحت ... «بحمد إلهي» وهي منه سليب
فتقديره: ثم أصبحت وهي منه سليب بحمد إلهي.
الرابع: ما يختل به المعنى ويضطرب، وذلك هو التعقيد اللفظي، أو المعاظلة التي تقدمت، كتقديم الصفة على الموصوف، والصلة على الموصول، أو نحو ذلك من الأنواع التي خرجت عن الفصاحة، ومنها قول لفرزدق: [الطويل]
إلى ملك ما أمه من محارب ... أبوه ولا كانت كليب تصاهره
فتقديره: إي ملك أبوه ما أمه من محارب، أي ما أم أبيه منهم، ولا شك أن هذا لا يفهم من كلامه للنظرة الأولى، بل يحتاج إلى تأمل وتريث ورفق، حتى يفهم المراد منه.