المبحث الثاني عشر في المجاز المركب بالاستعارة التمثيلية
بلاغة الاستعارة بجميع أنواعها
  سبق لك أن بلاغة التشبيه آتية من ناحيتين، الأولى: طريقة تأليف ألفاظه. والثانية:
  ابتكار مشبه به بعيد عن الأذهان، لا يجول إلا في نفس أديب، وهب اللّه له استعدادا سليما في تعرف وجوه الشبه الدقيقة بين الأشياء وأودعه قدرة على ربط المعاني، وتوليد بعض إلى مدى بعيد لا يكاد ينتهي.
  وسر بلاغة الاستعارة لا يتعدى هاتين، فبلاغتها من ناحية اللفظ أن تركيبها يدل على تناسي التشبيه، ويحملك عمدا على تخيل صورة جديدة تنسيك روعتها ما تضمنه الكلام من تشبيه خفي مستور.
  انظر إلى قول البحتري في الفتح بن خاقان: [البسيط]
  يسمو بكفّ على العافين حانية ... تهمي وطرف إلى العلياء طمّاح
  ألست ترى كفه: وقد تمثلت في صورة سحابة هتانة، تصب وبلها على العافين والسائلين، وأن هذه صورة قد تملكت عليك مشاعرك فأذهلتك عما اختبأ في الكلام من تشبيه؟
  لهذا كانت الاستعارة أبلغ من التشبيه البليغ لأنه وإن بنى على ادعاء أن المشبه والمشبه به سواء، لا يزال فيه التشبيه منويا ملحوظا. بخلاف الاستعارة فالتشبيه فيها منسي مجحود، ومن ذلك يظهر لك أن الاستعارة المرشحة أبلغ من الاستعارة المطلقة، وأن الاستعارة المطلقة أبلغ من الاستعارة المجردة.
  أما بلاغة الاستعارة من حيث الابتكار، وروعة الخيال، وما تحدثه من أثر في نفوس سامعيها، فمجال فسيح للإبداع، وميدان لتسابق المجيدين من فرسان الكلام. انظر إلى قوله عز شأنه في وصف النار: {تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}[سورة الملك، الإية: ٨]. ترتسم أمامك النار في صورة مخلوق ضخم، بطاش مكفهر الوجه عابس يغلي صدره حقدا وغيظا. (عن البلاغة الواضحة بتصرف).