جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع،

أحمد الهاشمي (المتوفى: 1362 هـ)

الباب الثالث في الكناية وتعريفها وأنواعها

صفحة 289 - الجزء 1

  يصف حال رسول الروم داخلا على سيف الدولة، فينزع في وصف الممدوح بالكرم، إلى الاستعارة التصريحية، والاستعارة كما علمت مبنية على تناسي التشبيه، والمبالغة فيها أعظم، وأثرها في النفوس أبلغ، أو يقول: [الطويل]

  دعوت نداه دعوة فأجابني ... وعلّمني إحسانه كيف آمله

  فيشبّه ندى ممدوحه وإحسانه بإنسان ثم يحذف المشبه به، ويرمز إليه بشيء من لوازمه، وهذا ضرب آخر من ضروب المبالغة التي تساق الاستعارة لأجلها، أو يقول: [الطويل]

  ومن قصد البحر استقلّ السّواقيا

  فيرسل العبارة كأنّها مثل، ويصوّر لك أنّ من قصد ممدوحه استغنى عمّن هو دونه، كما أنّ قاصد البحر لا يأبه للجداول، فيعطيك استعارة تمثيلية، لها روعة، وفيها جمال، وهي فوق ذلك تحمل برهانا على صدق دعواه، وتؤيّد الحال الذي يدّعيها، أو يقول: [البسيط]

  ما زلت تتبع ما تولي يدا بيد ... حتى ظننت حياتي من أياديكا

  فيعدل عن التشبيه والاستعارة، إلى المجاز المرسل ويطلق كلمة يد ويريد بها النعمة؛ لأن اليد آلة النعم وسببها، أو يقول: [البسيط]

  أعاد يومك أيامي لنضرتها ... واقتصّ جودك من فقري وإعساري

  فيسند الفعل إلى اليوم، وإلى الجود، على طريقة المجاز العقلي، أو يقول: [الطويل]

  فما جازه جود ولا حلّ دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير

  فيأتي بكناية عن نسبة الكرم إليه، بادّعاء أنّ الجود يسير معه دائما؛ لأنه بدل أن يحكم بأنه كريم، ادّعى أن الكرم يسير معه اين ما سار.

  ولهذه الكناية من البلاغة، والتأثير في النفس، وحسن تصوير المعنى، فوق ما يجده السّامع في غيرها من بعض ضروب الكلام. فأنت ترى أنه من المستطاع التعبير عن وصف إنسان بالكرم بأربعة عشر أسلوبا كلّ: له جماله، وحسنه، وبراعته، ولو نشاء لأتينا