جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع،

أحمد الهاشمي (المتوفى: 1362 هـ)

البلاغة

صفحة 37 - الجزء 1

  وكن في ثلاث منازل: فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقا عذبا وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا. إمّا عند الخاصة: إن كنت للخاصة قصدت، وإمّا عند العامة: إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتّضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال، وكذلك اللفظ العامّي والخاصي؛ فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك على نفسك ... على أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسعة التي لا تلطف عن الدّهماء، ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام.

  فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسنح لك عند أوّل نظرك، وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصل إلى حقّها: من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحلّ في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها.

  فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور، لم يعبك بترك ذلك أحد. وإن أنت تكلفته، ولم تكن حاذقا مطبوعا، ولا محكما لسانك. بصيرا بما عليك أو ما لك، عابك من أنت أقلّ عيبا منه ورأى من هو دونك أنه فوقك. فإن ابتليت بأن تتكلف القول، وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة، وتعصى عليك بعد إحالة الفكرة، فلا تعجل ولا تضجر ودعه بياض يومك، أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرق.

  فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض، ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفها عليك ... ، لأن النفوس تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة؛ كما تجود به مع المحبة والشهوة. فهكذا هذا.