جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع،

أحمد الهاشمي (المتوفى: 1362 هـ)

الباب الثالث في الكناية وتعريفها وأنواعها

صفحة 278 - الجزء 1


= وقوله: [الوافر]

وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل

فإن «جبان الكلب» كناية، وكذا «مهزول الفصيل» والمراد منها ثبوت الكرم وكل واحدة على حدتها يؤدي هذا المعني، وقد جاء عن العرب كنايات كثيرة كقوله: [البسيط]

بيض المطابخ لا تشكو إماؤهم ... طبخ القدور ولا غسل المناديل

ويروى أن خلافا وقع بين بعض الخلفاء نديم له في مسألة، فاتفقا على تحكيم بعض أهل العلم فأحضر، فوجد الخليفة مخطئا، فقال: القائلون بقول أمير المؤمنين أكثر (يريد الجهال) وإذا كان الرجل أحمق قيل، نعته لا ينصرف، ونظر البديع الهمذاني إلى رجل طويل بارد، فقال: قد أقبل ليل الشتاء. ودخل رجل على مريض يعوده وقد اقشعر من البرد، فقال: ما تجد (فديتك) قال أجدك (يعنى البرد) وإذا كان الرجل ملولا قيل: هو من بقية قوم موسى، وإذا كان ملحدا، قيل قد عبر (يريدون جسر الإيمان) وإن كان يسئ الأدب في المؤكلة قيل تسافر يده على الخوان ويرعى أرض الجيران. ويقال عمن يكثر الأسفار: (فلان) لا يضع العصا عن عاتقه، وجاء في القرآن الكريم {أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} فإنه كنى الغيبة بأكل الإنسان لحم الإنسان وهذا شديد المناسبة لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم وتمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابه.

ومن أمثال العرب، قولهم: لبست لفلان جلد النمر، وجلد الأرقم. كناية عن العداوة، وكذلك قولهم (قلبت له ظهر المجن) كناية عن تغيير المودة، ويقول القوم: فلان برئ الساحة، إذا برؤوه من تهمة، ورحب الذراع، إذا كان كثير المعروف، وطويل الباع في الأمر، إذا كان مقتدرا فيه، وقوي الظهر، إذا كثر ناصروه. ومن ذلك أن (المنصور) كان في بستان له، أيام محاربته (إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن) فنظر إلى شجرة خلاف فقال للربيع:

ما هذه الشجرة؟ فقال: طاعة يا أمير المؤمنين، فتفاءل المنصور به، وعجب من ذكائه، ومثل ذلك: أن رجلا مر في صحن دار (الرشيد)، ومعه حزمة خيزران، فقال الرشيد للفضل بن الربيع: ما ذاك؟ فقال (عروق الرماح) يا أمير المؤمنين، وكره أن يقول «الخيزران» لموافقته اسم (والدة الرشيد) ومن كلامهم «فلان طويل الذيل» =