جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع،

أحمد الهاشمي (المتوفى: 1362 هـ)

بلاغة الكناية

صفحة 286 - الجزء 1

  رحلت فكم باك بأجفان شادن ... عليّ وكم باك بأجفان ضيغم⁣(⁣١)

  وما ربة القرط المليح مكانه ... بأجزع من رب الحسام المصمم⁣(⁣٢)

  فلو كان ما بي من حبيب مقنع ... عذرت ولكن من حبيب معمّم

  رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى ... هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي

  إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم

  فإنه كنى عن سيف الدولة، أولا: بالحبيب المعمم، ثم وصفه بالغدر الذي يدعي أنه من شيمة النساء، ثم لامه على مبادهته بالعدوان، ثم رماه بالجبن لأنه يرمي ويتقي الرمي بالاستتار خلف غيره، على أن المتنبي لا يجازيه على الشر بمثله، لأنه لا يزال يحمل له بين جوانحه هوى قديما، يكسر كفه وقوسه، وأسهمه، إذا حاول النضال، ثم وصفه بأنه سيئ الظن بأصدقائه لأنه سيئ الفعل، كثير الأوهام والظنون، حتى ليظن أن الناس جميعا مثله في سوء الفعل، وضعف الوفاء، فانظر كيف نال المتنبي من سيف الدولة هذا النيل كله، من غير أن يذكر من اسمه حرفا.

  هذا، ومن أوضح مميزات الكناية التعبير عن القبيح بما تسيغ الآذان سماعه، وأمثلة ذلك كثيرة جدا في القرآن الكريم، وكلام العرب فقد كانوا لا يعبرون عما لا يحسن ذكره إلا بالكناية، وكانوا لشدة نخوتهم يكنون عن المرأة بالبيضة والشاة.

  ومن بدائع الكنايات قول بعض العرب:

  ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة اللّه السّلام⁣(⁣٣)

  [الوافر]

  فإنه كنى بالنخلة، عن المرأة التي يحبها.


(١). الشادن ولد الغزال، والضيغم الأسد، أراد بالباكي بأجفان الشادن المرأة الحسناء، وبالباكي بأجفان الضيغم الرجل الشجاع. يقول كم من نساء ورجال بكوا على فراقي، وجزعوا لارتحالي.

(٢). القرط ما يعلق في حمة الأذن، والحسام السيف القاطع، والمصمم الذي يصيب المفاصل ويقطعها، يقول لم تكن المرأة الحسناء بأجزع على فراقي من الرجل الشجاع.

(٣). ذات عرق موضع بالبادية وهو مكان إحرام أهل العراق.