الصدق والكذب في الخبر
  للواقع: إما: مع وجود اعتقاد موافق، أو مع وجود اعتقاد مخالف، أو بدون وجود اعتقاد أصلا، وعدم مطابقته للواقع: إما مع وجود اعتقاد موافق للكلام، أو مع وجود مخالف له، أو بدون اعتقاد أصلا، فهذه ستة: ثلاثة فى وجود مطابقة الكلام للواقع، وثلاثة فى عدم وجود تلك المطابقة، وقد اشترط فى الصدق وجود المطابقة مع اعتقادها، وهو الأول من ثلاثة أقسام المطابقة، وفى الكذب عدم المطابقة مع اعتقاد ذلك العدم، وهو الأول من ثلاثة أقسام عدم المطابقة، وبقيت أربعة: اثنان من أقسام المطابقة، واثنان من أقسام عدمها، وهى الواسطة، وإلى ذلك أشار بقوله: (وغيرهما) أى وغير هذين القسمين وهى الأربعة السابقة (ليس بصدق ولا كذب) بل هو واسطة، فتبين بهذا أن تفسير الجاحظ للصدق أخص من تفسير الجمهور، لأن مقتضى تفسيره: أن الصدق لا بد فيه من مطابقة الواقع والاعتقاد معا، والجمهور قد اعتبروا مطابقة الواقع لا غير، وإنما قلنا: إن مقتضى تفسيره ما ذكر؛ لأنه لم يقل: مطابقته الواقع والاعتقاد معا، لكن قوله: مع اعتقاد المطابقة يستلزم مطابقة الاعتقاد، فإن من اعتقد أن ما فهم من الكلام صحيح وهو كون مدلوله كذلك فى نفس الأمر، فقد طابق مفهوم الكلام اعتقاده، ولو لم يكن كذلك فى نفس الأمر فأحرى إذا اتحد الواقع والاعتقاد، وأيضا إذا اتحد الواقع والاعتقاد فمطابقته لأحدهما تستلزم مطابقة الآخر، وإن تفسيره الكذب أيضا أخص من تفسيرهم؛ لأنه اعتبر عدم المطابقة للواقع والاعتقاد معا، وهم اعتبروا عدم المطابقة للواقع لا غير، وإنما قلنا كذلك؛ لأنه ولو لم يصرح بالتفسير كذلك لكن لزم من كلامه؛ لأن ما ذكر من اعتقاد عدم المطابقة يستلزم عدم مطابقة الاعتقاد الذى ذكروا؛ وذلك لأن الواقع حينئذ والاعتقاد متحدان، فمفهوم اللفظ إذا لم يطابق أحدهما فيلزم أن لا يطابق الآخر.
  وأثبت الجاحظ الواسطة فى الجملة (بدليل) قوله تعالى حكاية عن الكفار.
  {إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ٧ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}(١) فإنهم حصروا إخبار النبى ﷺ بالحشر والنشر، كما دل
(١) سبأ: ٧، ٨.