مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح،

أحمد بن محمد بن يعقوب (المتوفى: 1128 هـ)

الصدق والكذب في الخبر

صفحة 152 - الجزء 1

  وهو ظاهر، وأنت خبير بأن هذا بعد تسليمه لا ينتج إلا ثبوت الواسطة فى الجملة لا ثبوتها على الوجه المذكور عند الجاحظ (ورد) هذا الاستدلال (بأن المعنى) أى: معنى قوله: {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} (أم لم يفتر) فيكون مرادهم - لعنة الله عليهم - إن أخباره ليست من الله تعالى على كل حال بل إما أنه اختلق ذلك بالقصد أو وقع بلا قصد، فعبر بالافتراء الذى هو الاختلاق عن قصد عن معناه، وعبر عن مقابله وهو عدم الافتراء بوجود الجنة لاستلزامه عدم الافتراء على وجه الكناية وهو معنى قوله: (فعبر عنه) أى: عن عدم الافتراء (بالجنة لأن المجنون لا افتراء له) فعلى هذا يكون حصر الإخبار فى الافتراء وعدمه من حصر الكذب فى نوعيه، وهما الكذب عمدا وهو الافتراء والكذب لا عمدا وهو المراد بعدم الافتراء، وهذا ظاهر إن سلم أن الافتراء هو الكذب عن عمد، وهو الأظهر، فى أكثر الاستعمال لا يقال مقابلة الافتراء بعدمه لا تدل على أن المراد بعدمه كذب، لا عن عمد لصدق عدم الافتراء بالصدق، ولا تحسن مقابلة الشيء إلا بما يعانده صدقا؛ لأنا نقول: كونهم كفارا معتقدين غير الصدق يعين أن المراد عندهم بعدم الافتراء الكذب لا عن عمد، فكأنهم يقولون ليس ثم الإخلاف الواقع فإما أنه تعمده أو لم يتعمده لجنون فناسب المقابلة، وقد رد الله تبارك تعالى عليهم - لعنة الله عليهم - مخبرا بضلالهم وأنهم الكاذبون متوعدا عليهم بقوله وهو أصدق القائلين: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ}⁣(⁣١)، ثم شرع فى الأبواب الثمانية وقدم منها أحوال الخبر عن الإنشاء؛ لأن مباحثه أكثر ولطائفه كما يعلم بتتبع التراكيب أعجب، ولأن الإنشاء فرع الخبر؛ لأنه إما بنقل كنعم وعسى، أو بآية كهل، أو باشقاق كقم، وقدم من أحوال الخبر أحوال الإسناد عن أحوال المسندين؛ لأن البحث عنهما من حيث وصفهما بالإسناد، ولا يتعقلان باعتبار الاتصاف بالإسناد إلا بعد تعقل الإسناد وأما كون الإسناد من النسب التى لا تعقل إلا بين المنتسبين، فيلزم تأخر اعتباره عن الطرفين فذلك باعتبار ذات المسندين، وبحثنا فى هذا الفن عنهما من حيث كونهما مسندين، وهما من تلك الحيثية متأخران؛ لا من حيث ذاتهما فقال:


(١) سبأ: ٨.