الوجه الثالث: التكرير لنكتة
  أعلى وفى الثانى يهان زيد ثم يهان عمرو، تعنى بما هو أدنى فقد استعملت ثم فى مجرد التدرج فى درج الارتقاء والانحطاط ومنه الحديث (من أولى الناس بالبر يا رسول الله؟
  فقال: أمك، فقيل: ثم ما ذا؟ قال: أمك فقيل: ثم ما ذا؟ قال: أبوك)(١) لأن المراد أن مرتبة البر بالأب أدنى من مرتبة البر بالأم، لا أنه بعده فى الزمان كما لا يخفى وإذا كان كذلك فدخولها على الجملة المذكورة، يؤذن بأن مضمونها أعلى عند المتكلم، فلذلك دلت الآية على أبلغية الإنذار المضمون للجملة الثانية؛ لأن الأبلغية علو فى المرتبة فى قصد المتكلم ووجه الشبه بين البعدين التفاوت بين مشتركين فى أمر خاص فى الجملة، وهو ظاهر ومن نكت التكرار زيادة تأكيد ما تنتفى به التهمة فى النصح، كقوله تعالى - حكاية عن صاحب قوم فرعون: {يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ٣٨ يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ}(٢) فتكرار يا قوم لما كانت فيه إضافة لياء النفس أفاد بعد القائل عن التهمة فى النصح، حيث كانوا قومه وهو منهم، فلا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه فتضمن تكراره تأكيدا لنفى التهمة.
  ومن نكته أن يكون معنى متعلق الفعل المكرر مختلفا، واللفظ الدال على ذلك المتعلق واحد؛ لأن فى تكراره إفادة التنبيه على كل معنى بخصوصه والمقام يقتضيه كقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}(٣) فإنه كرر ذلك إثر ذكر النعم فى السورة، والنعم المذكورة مختلفة، والمقام يقتضى التنبيه على كل نعمة، ليقام بشكرها بخصوصها وأما ذكره بعد ذكر جهنم، وإرسال الشوظ من النار فبالنظر إلى أنهما إنما ذكرا للزجر عن المعصية، فعادا نعمة من حيث الانزجار بهما، ولذلك عقبا بقوله تعالى فبأى آلاء ربكما تكذبان كسائر النعم.
(١) أخرجه البخاري ومسلم.
(٢) غافر: ٣٨ - ٣٩.
(٣) الرحمن: ١٣.