الوجه الرابع: الإيغال
  الوحش ألفهم لطول سفرهم، واستقرارهم فى الفيافى، فلا تفر منهم فتظهر أعينها بتلك الصفة حول أخبيتهم. وها هنا أمران لا بد من التنبيه عليهما:
  أحدهما: أن زيادة قوله الذى لم يثقب، وقوله فى رأسه نار لإفادة معنى كل منهما على أنه وصف لما قبله كسائر النعوت التى تزاد معانيها، وليس معنى كل منهما مستفادا مما قبله. فإن كان الإتيان بالنعت عند الحاجة إليه مساواة، فهذان منه وإلا لزم كون النعت إطنابا إن كان لفائدة، أو تطويلا إن لم يكن بل ويلزم كون سائر الفضلات كذلك، والآخر أنه على تقدير كونهما ليسا من المساواة، فمفادهما ينبغى أن يبين وجه كونه من المعانى لا البديع فإن تحقيق التشبيه مثلا إنما يتبادر منه زيادة الحسن فى معنى الكلام وظرافته، فهو بالبديع أجدر. ويقال مثله فى المبالغة فى التشبيه.
  والجواب عن الأول: أن النعت وشبهه من سائر الفضلات، إن أتى للمعنى الذى وضع له فقط، ويكون مدرجا للأوساط من الناس، كان مساواة، وإن أتى به لمعنى دقيق، يناسب المقام لا يدركه إلا الخواص، ولا يستشعره إلا أهل الرعاية لمقتضيات الأحوال كالمبالغة فى التشبيه المناسبة فى قوله: فى رأسه نار كان إطنابا ولا نسلم أن ما أتى به للإطناب، يجب أن يكون مستفادا مما قبله. بل إذا أتى بالشيء لمعناه وفيه دقة فى المقام مناسبة، لا يأتى به لأجلها الأوساط من الناس وإنما يتفطن له البلغاء وأهل الفطنة، وقصد الإتيان به لذلك كان إطنابا ولو أوجبنا فى الإطناب أن يكون معناه مدلولا لما قبله، خرج كثير مما أوردوه فى هذا الباب عن معنى الإطناب وبهذا يجاب عن كل ما كان من هذا النمط مما يذكره المصنف بعد.
  والجواب عن الثانى: أن مناسبة المبالغة للمقام ظاهرة لأنها زيادة فى مدح المرئى، وذلك مناسبة لرثائه وزيادة التوجع عليه وأما تحقيق التشبيه، فحسن الكلام به وظرافته، يناسب مقام المفاخرة والإرباء على الأتراب فى الشعر والنثر، ويناسب مقام إمالة النفوس لمدح الشاعر أو الثائر على شعره ونثره فمن هذا الوجه وما يشبهه يكون من المعانى، وبه يعلم أن البديعيات إذا قصد بها مناسبة الأحوال التى أوردت لأجلها، عادت معانى والمعانى إذا ذهل عن تلك المناسبات فيها، وأتى بها لأجل ظرافتها فقط،