(أحوال الإسناد الخبرى)
  فقلت لمحرز لما التقينا ... تنكب لا يقطرك الزحام(١)
  يرميه بالضعف وقلة الفائدة وعدم حضوره مجامع الحروب، بحيث يخشى عليه أن يداس أى: يوطأ بالأقدام ويقطر أى: يلقى على قفاه عند الزحام، فالتأكيد الذى كان الأصل فيه عرفا أن يدل على الإنكار حيث استعمل فى غير المنكر ينتقل منه إلى تنزيله منزلة المنكر، كالانتقال من الملزوم إلى اللازم؛ ولذلك قيل: إن الدلالة هنا من باب الكناية التى هى أن يستعمل الملزوم لينتقل منه إلى اللازم، ولما كان وضع الرمح عرضا إنما جعل أمارة على الإنكار من جهة كون شقيق مرميا بالجبن فى زعم الشاعر كان من لطيفة هذا التنزيل إظهار التهكم والاستهزاء كما ذكرنا، فحسن بذلك الكلام وبلغ فيه المرام، ولو لا رميه بالجبن كان وضع الرمح كذلك أمارة على قلة المبالاة الدالة على الشجاعة تأمله.
  (و) يجعل (المنكر) ويجرى مجراه المتردد الطالب (كغير المنكر) وهو الخالى الذهن، ولا يدخل فيه الطالب، إذ لا معنى لقولنا: يجعل كالطالب، فلا يؤكد الكلام، بل الطالب أيضا ينزل منزلة الخالى الذهن، فلا يؤكده معه، وحمله على معنى جعل المنكر كالطالب، فيستحسن التأكيد ولا يجب فى غاية البعد، إذ الوجوب وعدمه أمر خفى ليس مما يكنى عنه بعوارض اللفظ، وقد تقدم أن التنزيل دلالته من الكناية فافهم.
  وإنما ينزل المنكر كغيره (إذا كان معه) أى: مع المنكر (ما) أى: دلائل وشواهد (إن تأمله) أى: إن تفكر فى تلك الدلائل معه (ارتدع) أى رجع عن إنكاره، والمراد بوجود الدلائل معه: تصورها وشهودها بالحس الظاهر أو الباطن لا وجودها فى نفس الأمر ولو غابت عن علمه؛ لأن ذلك لا يكفى فى التنزيل على ما سنقرره، وما: واقعة على الدلائل كما قررنا لا على العقل كما قيل، وإلا كان المناسب أن يقول إن تأمل به وإن أراد القائل بالعقل الدلائل المعقولة عاد للشواهد، وأيضا الغرض من هذا التنزيل بيان وضوح تلك الدلائل وقيام الحجة بها، وإن الجحود معها كالعدم لا يقوم
(١) البيت لأبي ثمامة البراء بن عازب الأنصارى.