تقديم المسند إليه وأغراض ذلك
  معنى قوله: (لأن فى) تقديم (المبتدأ تشويقا إليه) أى: إلى الخبر لما معه من الوصف الموجب لذلك (كقوله) أى المعرى:
  بأن أمر الإله واختلف النا ... س فداع إلى ضلال وهادى(١)
  (والذى حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد)
  فكون المسند إليه موصوفا بحيرة البرية فيه يوجب الاشتياق إلى أن الخبر عنه ما هو وقوله: حيوان مستحدث من جماد خبر مسوق بعد التشويق إليه فيتمكن فى ذهن السامع، والحال قد اقتضى مزيد اهتمام بتمكينه فى أذهان السامعين، ليحترز المحترز عن الضلال فيه، ويزداد المهتدى فيه هدى، ولكونه أمرا عجيبا فى نفسه تفزع النفوس إلى التهمم بتصوره والإيقاف عليه والمراد باستحداث الحيوان من الجماد البعث والمعاد للأجسام الحيوانية يوم القيامة، ويدل عليه قوله بأن أمر الإله إلخ مع ما تقدم وتأخر عنه، وقيل المراد بالحيوان المذكور ثعبان موسى - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام - وقيل ناقة صالح، وقيل آدم # وقيل طائر بالهند يعيش طويلا فإذا انته أجله دخل عشا ونفخ فيه، فتحدث فى العش أصوات مطربة فيحترق العش بنار تحدث حينئذ، ويحترق ذلك الطائر فى العش حتى يصير رمادا ثم يخلق الله تعالى من ذلك الرماد ذلك الطائر مرة أخرى ثم إذا انته أجله فعل مثل ما فعل أولا وهلم جرا، والاحتمالات غير الأول ضعيفة، وحيرة البرية إما بمعنى الاضطراب والاختلاف؛ لأن الحيرة فى الشيء يلزمها الاختلاف فى بعض الصور فيكون من إطلاق الملزوم على اللازم، وإما بمعنى أن مذهب الهادى يحتاج فيه إلى دفع الشبه، وكذا مذهب الضال ودفع الشبه لا يخلو غالبا من حيرة فيكون إطلاق الحيرة، واردا على أصله فكأنه يقول: والذى وقع فيه تحير أولا ولم يقع استقرار فى أمره إلا بعد دفع الشبه حيوان فعلى هذا لا يرد أن يقال: قد استقر العالم على مذهبين فلا حيرة تأمله.
(١) البيت لأبي العلاء المعري في داليته المشهورة بسقط الزند ٢/ ١٠٠٤، والمفتاح ص ٩٨، وشرح المرشدى ١/ ٥٩.