الوصل بغير الواو من حروف العطف
  وأما فى الثانى: فلأن تفصيل الشيء يناسب بعد إجماله ولو اقترن الحكمان، وكذا «ثم» قد تكون لاستبعاد مضمون ما بعدها عما قبلها، ولو اقترن مضمونهما كما فى قوله تعالى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}(١) فإن الاستغفار مع التوبة التى هى الانقطاع إلى أمر الله - تعالى - بترك المعصية يقترنان، وربما سبقت التوبة فعطفت التوبة على الاستغفار ب «ثم» إيماء إلى أن منزلة الانقطاع إلى الله - تعالى - بالمعنى المذكور أعلى من الاستغفار باللسان، وقد تكون لمجرد التدرج فى درج الكمال، وبيان الحال الذى هو الأولى من ذلك الكمال بالتقديم كقوله(٢):
  إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد بعد ذلك جده
  فإن سيادة الجد والأب سابقتان؛ لكن أتى بثم لتدرج الممدوح بمدارج الكمال مع بيان الأولى منها بالتقديم؛ لأن الأولى بالإنسان سيادته ثم تليه سيادة أبيه، ولو كان سيادة الكل مدحا له فتقرر بهذا أن العطف بغير الواو موجب لحصول فائدة تغنى عن طلب خصوصية جامعة بين المتعاطفين، وتلك الفائدة هى حصول معانى تلك الحروف بخلاف العطف بالواو، فليس فيه إلا مجرد الاشتراك، فإن كان للجملة الأولى محل من الإعراب ظهر المشترك فيه وهو الحكم كما فى المفردات فتقرر للعطف بها فائدة، وإن لم يكن لها محل لم يظهر المشترك فيه فاحتيج إلى جامع مخصوص يكون مشتركا بين الجملتين جامعا لهما وإنما قلنا مخصوص؛ لأنه لا يكفى مطلق الجامع، والأصح العطف فى كل شيء، وذلك الجامع يتوقف على معرفة كمال الانقطاع، وكمال الاتصال، وشبه كل منهما، والتوسط والتفريق بين هذه من أدق الأمور؛ ولذلك قيل: إن باب الفصل والوصل هو مرجع البلاغة بالمعنى، إذ فى قوة مدركه الصلاحية لإدراك ما سواه، ولصعوبته قيل: إن فيه تسكب العبرات، ولكن هذا الكلام مشتمل على ما يقتضى كون الجملة التى لها محل من الإعراب غير مفتقرة إلى جامع، وقد تقدم ما يخالف ذلك، وقد يجاب بأن مقتضاه عدم الافتقار إلى الجامع الذى يحتاج فيه إلى معرفة كمال
(١) هود: ٩٠.
(٢) البيت لأبي نواس في ديوانه (١/ ٣٥٥)، وخزانة الأدب (١١/ ٣٧، ٤٠، ٤١) والدرر (٦/ ٩٣)، وبلا نسبة في الجنى الدانى ص (٤٢٨)، وجواهر الأدب ص (٣٦٤)، ورصف المباني ص (١٧٤)، ومغنى اللبيب (١/ ١١٧).