الفصل لكمال الاتصال
  من قسمي الجملة التأكيدية فقال: (ونحو) قوله تعالى (هدى) بناء على أنه خبر مبتدأ مضمر، وأن التقدير «هو» أى: الكتاب هدى (للمتقين) وأما إذا بنينا على أنه خبر عن «ذلك الكتاب» بعد خبر «هو لا ريب فيه» أو أنه مبتدأ، أو المجرور قبله خبر، أو أنه حال والعامل اسم الإشارة، فلا يكون مما نحن بصدده، وتعلق الهداية بالموصوفين بالتقوى إما على معنى الزيادة، أى: هو نفس زيادة الهدى للمتقين على هداهم، والهدى هو الدلالة على سبيل النجاة، فيكون المعنى أنه يدلهم على ما لم يصلوا إليه من معانى التقوى، أو على معنى أنه هدى للذين من شأنهم التقوى، وهم الذين يستمعون الحق ويقبلونه، ولو كانوا فى الحالة الراهنة غير موصوفين بالتقوى، فيراد بالمتقين من هم ضالون ولكن يصيرون لقربهم من القبول متقين، لسماع الكتاب، بخلاف المطبوع على قلوبهم، وإطلاق الوصف على مقاربه موجود، فى كلام العرب، كقوله ﷺ «من قتل قتيلا فله سلبه»(١) فإن تسليط القتل على القتيل إنما صح، باعتبار أن المعنى الذى يصير قتيلا بعد قتله، وإلا ففى حال محاولة قتله ليس بقتيل وإنما يصير قتيلا بعد الفراغ من تسلط القتل عليه، ومنه «الحج يمرض المريض» أى: يوجب المرض لقابله (فإن معناه) أى: وإنما قلنا: إن جملة «هو هدى» كالتأكيد اللفظى ل «ذلك الكتاب»(٢) الكتاب لاتحادهما معنى؛ لأن معناه أى: معنى «هو هدى» (أنه فى الهداية بالغ) أى: أن الكتاب بلغ فى مدارج الهداية (درجة) من وصفها أنها (لا يدرك كنهها) أى: لا يبلغ حقيقة تلك الدرجة بتمامها، بمعنى أنه مشتمل على البينات التى لوضوحها، ونصوع دلالتها بحيث يهتدى بها المنصف بأدنى لمحة، وتضمحل معها الشبه، فلا يتوهم لها صحة، كما قيل لبعضهم: فيم لذتك؟ فقال: فى حجة تتبختر اتضاحا، وشبهة تتضاءل افتضاحا فلما بلغ إلى هذه الحالة فى الاهتداء به، ودل على ذلك التنكير المفيد للتفخيم والتعظيم، أى: له هدى واضح على الحق ودلالة عظمى على هدم الباطل من أصله، صار شديد الملابسة للهدى، كثير الاتصاف به (حتى كأنه هداية محضة) ولذلك أخبر
(١) جزء من حديث أخرجه البخاري (٣١٤٢)، وفي مواضع أخر من صحيحه، ومسلم (١٧٥١).
(٢) البقرة: ٢.