حرف القاف (ق)
  أجنحة الملك، والحكمة في تقدّمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقي فيه مكانا لغيره. وفي الصحيح أنّ هذه الحالة أشدّ حالات الوحي عليه. وقيل إنّه إنّما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد. الثانية أن ينفث في روعه الكلام نفثا كما قال ÷ (إنّ روح القدس نفث في روعي)(١) أخرجه الحاكم، وهذا قد يرجع إلى الحالة الأولى أو التي بعدها بأن يأتيه في إحدى الكيفيتين وينفث في روعه. الثالثة أن يأتيه في صورة رجل فيكلّمه كما في الصحيح (وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول)(٢) زاد أبو عوانة(٣) في صحيحة(٤) وهو أهونه عليّ. الرابعة أن يأتيه في النوم وعدّ من هذا قوم سورة الكوثر. الخامسة أن يكلّمه اللّه تعالى إمّا في اليقظة كما في ليلة الإسراء أو في النوم كما في حديث معاذ (أتاني ربّي فقال فيم يختصم الملأ الأعلى)(٥) الحديث انتهى ما في الإتقان.
  وقال الصوفية القرآن عبارة عن الذات التي يضمحلّ فيها جميع الصفات فهي المجلى المسمّى بالأحدية أنزلها الحقّ تعالى على نبيه محمد ÷ ليكون مشهد الأحدية من الأكوان. ومعنى هذا الإنزال أنّ الحقيقة الأحدية المتعالية في ذراها ظهرت بكمالها في جسده، فنزلت عن أوجها مع استحالة العروج والنزول عليها، لكنه ÷ لما تحقّق بجسده جميع الحقائق الإلهية وكان مجلى الاسم الواحد بجسده، كما أنّه بهويته مجلى الأحدية وبذاته عين الذات، فلذلك قال ÷: (أنزل عليّ القرآن جملة واحدة)(٦) يعبّر عن تحقّقه بجميع ذلك تحقّقا ذاتيا كليا جسميا، وهذا هو المشار إليه بالقرآن الكريم لأنه أعطاه الجملة، وهذا هو الكرم التّام لأنّه ما ادّخر عنه شيئا بل أفاض عليه الكلّ كرما إلهيا ذاتيا. وأمّا القرآن الحكيم فهو تنزّل الحقائق الإلهية بعروج العبد إلى التحقّق بها في الذات شيئا فشيئا على مقتضى الحكمة الإلهية التي يترتّب الذات عليها فلا سبيل إلى غير ذلك، لأنّه لا يجوز من حيث الإمكان أن يتحقّق أحد بجميع الحقائق الإلهية بجهده من أوّل إيجاده، لكن من كانت فطرته مجبولة على الألوهة فإنّه يترقّى فيها ويتحقّق منها بما ينكشف له من ذلك شيئا بعد شيء مرتبا ترتيبا إلهيا. وقد أشار الحقّ إلى ذلك بقوله:
  {وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا}(٧)، وهذا الحكم لا ينقطع ولا
(١) أخرجه الحاكم البغوي، الحسين بن مسعود (- ٥١٦ هـ)، شرح السنة، تحقيق شعيب الارناؤوط، ط أولى، دمشق المكتب الاسلامي، ١٤٠٠ هـ، ح ٤١١٢، ١٤/ ٣٠٤.
(٢) الصحيحان وصحيح أبي عوانة مع زيادة فيه. صحيح البخاري، بيان كيفية الوحي، ح ٢، ١/ ٣
وذكر السيوطي في شرح سنن النسائي أن أبا عوانة زاد في صحيحه قوله ﷺ (وهو أهون عليّ). سنن النسائي، كتاب الافتتاح، باب جامع ما جاء في القرآن، ح ٩٣٣، ٢/ ١٤٦.
(٣) هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم النيسابوري الأسفراييني، أبو عوانة، توفي عام ٣١٦ هـ / ٩٢٨ م، من أكابر حفاظ الحديث، طاف في البلاد وجمع الحديث، فقيه شافعي له عدة كتب. الاعلام ٨/ ١٩٦، تذكرة الحفاظ ٣٥/ ٢، وفيات الأعيان ٢/ ٣٠٨، مرآة الجنان ٢/ ٢٦٩، معجم البلدان ١/ ٢٢٨.
(٤) صحيح أبي عوانة ليعقوب بن إسحاق النيسابوري الأسفراييني (- ٣١٦ هـ) كشف الظنون، ٢/ ١٠٧٥.
(٥) سنن الدارمي، كتاب الرؤيا، باب في رؤية اللّه تعالى في النوم، ١٢٦
(٦) رواه الحاكم، المستدرك، كتاب التفسير، ٢/ ٢٢٢، بلفظ: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر ... وقال عنه أنه حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
(٧) الفرقان / ٣٢