موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم،

التهانوي (المتوفى: 1158 هـ)

الرواتب:

صفحة 876 - الجزء 1

  الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}⁣(⁣١) روي أنّ اليهود قالوا لقريش: اسألوا عن محمد⁣(⁣٢) عن ثلاثة أشياء.

  فإن أخبركم عن شيئين وأمسك عن الثالثة فهو نبي. اسألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح. فسألوا رسول اللّه ÷ عنها، فقال # غدا أخبركم ولم يقل إن شاء اللّه تعالى. فانقطع الوحي أربعين يوما ثم نزل: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ}⁣(⁣٣) تعالى⁣(⁣٤) ثم فسّر لهم قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وأبهم قصة الروح، فنزل {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. ومنهم من طعن في هذه الرواية وقال إنّ الروح ليس أعظم شأنا من اللّه تعالى. فإذا كانت معرفته تعالى ممكنة بل حاصلة فأي معنى يمنع من معرفة الروح. وإنّ مسئلة الروح يعرفها أصاغر الفلاسفة وأراذل المتكلّمين، فكيف لا يعلم الرسول # حقيقته مع أنّه أعلم العلماء وأفضل الفضلاء.

  قال الإمام الرازي بل المختار عندنا أنهم سألوا عن الروح وأنّه ~ وسلامه أجاب عنه على أحسن الوجوه. بيانه أنّ المذكور في الآية أنهم سألوه عن الروح، والسؤال يقع على وجوه. أحدها أن يقال ما ماهيته؟ هو متحيّز أو حالّ في المتحيّز أو موجود غير متحيّز ولا حالّ فيه. وثانيها أن يقال أهو قديم أو حادث؟ وثالثها أن يقال أهو هل يبقى بعد فناء الأجسام أو يفني؟ ورابعها أن يقال ما حقيقة سعادة الأرواح وشقاوتها؟

  وبالجملة فالمباحث المتعلّقة بالروح كثيرة وفي الآية ليست دلالة على أنهم عن أي هذه المسائل سألوا: إلّا أنّه تعالى ذكر في الجواب قل الروح من أمر ربي، وهذا الجواب لا يليق إلّا بمسألتين: إحداهما السؤال عن الماهية أهو عبارة عن أجسام موجودة في داخل البدن متولّدة عن امتزاج الطبائع والأخلاط، أو عبارة عن نفس هذا المزاج والتركيب، أو عن عرض آخر قائم بهذه الأجسام، أو عن موجود يغاير عن هذه الأشياء؟ فأجاب اللّه تعالى عنه بأنّه موجود مغاير لهذه الأشياء بل هو جوهر بسيط مجرّد لا يحدث إلّا بمحدث قوله {كُنْ فَيَكُونُ}، فهو موجود يحدث من أمر اللّه وتكوينه وتأثيره في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه مطلقا، وهو المراد⁣(⁣٥) من قوله {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} وثانيتهما السؤال عن قدمها وحدوثها فإنّ لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل كقوله تعالى {وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}⁣(⁣٦) فقوله {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} معناه من فعل ربي فهذا الجواب يدلّ على أنهم سألوه عن قدمه وحدوثه فقال: بلى هو حادث، وإنّما حصل بفعل اللّه وتكوينه. ثم احتج على حدوثه بقوله {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} يعني أنّ الأرواح في مبدأ الفطرة خالية عن العلوم كلّها ثم تحصل فيها المعارف والعلوم، فهي لا تزال متغيّرة عن حال إلى حال والتغيّر من أمارات الحدوث انتهى.

  ثم القائلون بعدم امتناع معرفة الروح اختلفوا في تفسيره على أقوال كثيرة. قيل إنّ الأقوال بلغت المائة. فمنهم من ذهب إلى أنّ


(١) الإسراء / ٨٥.

(٢) اسألوا محمدا (م).

(٣) الكهف / ٢٣ - ٢٤.

(٤) تعالى (- م).

(٥) المقصود (م، ع).

(٦) هود / ٩٧.