حرف (الزاي) (ز)
  تكون بما في يديك أوثق مما في يد اللّه تعالى، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها، لو أنّها بقيت لك»(١). ولا يعارض ما مرّ من تفسير الزهد لأنّ الترمذي ضعّفه ولأنّ أحمد رواه موقوفا على أبي مسلم الخولاني(٢) بزيادة «وأن يكون مادحك وذامّك في الحق سواء»(٣). وقد اشتمل ثلاثة أمور كلها من أعمال القلب دون الجوارح، ومن ثم كان أبو سليمان يقول لا نشهد لأحد بالزهد لأنّه في القلب. ومنشأ أول تلك الأمور الثلاثة من صحة اليقين وقوته فإنّه تعالى يتكفّل بأرزاق عباده كما في آيات كثيرة. وفي حديث مرفوع: «من سرّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد اللّه أوثق مما في يده»(٤). وقال الفضيل(٥): أصل الزهد الرضا عن اللّه ø، والقنوع هو الزهد وهو الغنى، فمن حقّق اليقين وثق في أموره كلها باللّه ورضي بتدبيره له، وغنى عن الناس، وإن لم يكن له شيء من الدنيا. ومنشأ ثانيها من كمال اليقين، ومن ثمّ روي أنّ من دعائه ÷: «اللّهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنّتك ومن اليقين ما تهون به علينا من مصائب الدنيا»(٦). وقال علي كرّم اللّه وجهه:
  من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب. ومنشأ ثالثها من سقوط منزلة المخلوقين من القلب وامتلائه من محبة الحقّ وإيثار رضاه على رضا غيره، وأن لا يرى لنفسه قدر الوجه. ومن ثمّ كان الزاهد في الحقيقة هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها. ولذا قيل: الزهد في الرئاسة أشدّ منه في الذهب والفضة. وقيل لبعض السلف من معه مال هل هو زاهد؟ فقال نعم إن لم يفرح بزيادته. وقال سفيان الثوري(٧): الزهد في الدنيا قصر الأمل ليس بأكل الغليظ ولا بليس العباء.
  ومن دعائه ﷺ: «اللّهم زهدنا في الدنيا ووسّع علينا منها ولا تزوها عنا فترغبنا فيها»(٨). وقال أحمد: هو قصر الأمل واليأس مما في أيدي الناس، أي لأنّ قصره يوجب محبّة لقاء اللّه تعالى بالخروج من الدنيا وهذا نهاية الزهد فيها والإعراض عنها. هذا كله خلاصة ما في فتح المبين شرح الأربعين في شرح الحديث الحادي والثلاثين ومجمع السلوك وخلاصة السلوك.
  وأورد في الصحائف: الزهد عندنا على ثلاث مراتب:
  ١ - المرتبة الأولى: الزهد في الدنيا وهذا
(١) رواه الترمذي ج ٤/ ٢٧٧.
(٢) هو عبد اللّه بن ثوب الخولاني. توفي بدمشق عام ٦٢ هـ / ٦٨٢ م. تابعي، فقيه، زاهد. وكان يقال عنه: أبو مسلم حكيم هذه الأمة. الأعلام ٤/ ٧٥، تذكرة الحفاظ ١/ ٤٦، حلية الأولياء ٢/ ١٢٢، اللباب ١/ ٣٩٥، البداية والنهاية ٨/ ١٤٦.
(٣) ذكره ابن حجر الهيثمي في كتاب فتح المبين لشرح الأربعين ص ٢٠٦. ولم نجده في كتب الصحاح والأسانيد.
(٤) المغني عن حمل الأسفار للعراقي ٤/ ٢٣٩. من سرّه أن يكون عند اللّه أغنى الناس: إتحاف السادة المتقين للتبريزي ٩/ ٣٨٨.
من سره أن يكون من أغنى الناس. تاريخ أصبهان لأبي نعيم ٢/ ٣٦٣.
(٥) هو الفضيل بن عياض، شيخ الحرم المكي. وقد سبقت ترجمته.
(٦) سنن الترمذي ٣٥٠٢. مستدرك الحاكم ١/ ٥٢٨ - ٢: ١٤٢. مشكاة المصابيح للتبريزي ٢٤٩٢. شرح السنة للبغوي ٥: ١٧٤.
(٧) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد اللّه، ولد بالكوفة عام ٩٧ هـ / ٧١٦ م. وتوفي بالبصرة عام ١٦١ هـ / ٧٧٨ م.
لقّب بأمير المؤمنين في الحديث. كان سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى له عدة كتب. الاعلام ٣/ ١٠٤، وفيات الأعيان ١/ ٢١٠، الجواهر المضية ١/ ٢٥٠، طبقات ابن سعد ٦/ ٢٥٧، حلية الأولياء ٦/ ٣٥٦.
(٨) جاء بلفظ: ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا.
سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب رقم ٨٠ دون اسم، ج (٣٥٠٢)، ٥/ ٥٢٨. أما «اللهم زهدنا في الدنيا» فهو دعاء لسفيان الثوري، ذكره ابن حجر الهيثمي في كتاب فتح المبين لشرح الأربعين، شرح الحديث ٣١، ص ٢٠٦.