تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين،

المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (المتوفى: 494 هـ)

في التفضيل

صفحة 8 - الجزء 1

  المعارضة والمعاندة، واتباع الأهواء والشهوات، وسرعة الرفض لما لا يوافق مقاصدهم وأهوائهم، كان من رحمة الله بهم ولطفه لهم أنه إذا أمرهم بأمرٍ، أو حثّهم على فعل شيءٍ، وهو عالم بأن نفوسهم تأباه، وقلوبهم لا ترضاه، وأنهم سيعارضونه، يكرر عليهم ذلك الأمر في آيات كثيرة، ومواضع عديدة، دلالة لهم على فضيلة التمسك بذلك الأمر، وتأكيداً لوجوبه، وزيادة في الحجة عليهم.

في التفضيل

  وكان من تلك الأوامر العظيمة، والمسائل الهامة التي تلقوها قديماً وحديثاً بالمعارضة والتكذيب، وقابلوها بالعصيان لمن أمرهم بها وحثهم عليها، مخالفةً لأمره، وخروجاً عن حُكْمه، وميلاً إلى الدنيا، واتباعاً للأهواء هي مسألة التفضيل التي هي سنة الله في مخلوقاته، وأخبر أنها من اختياراته التي لا يجوز مخالفتها ولا تعدّيها ولا الخروج منها، وذكر أنها واقعة بين أنبيائه ورسله، بل بين ملائكته وصفوته من خليقته، كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}⁣[البقرة: ٢٥٣]، فهذا نص صريح محْكم لا خلاف فيه في تفضيل الله حتى بين أنبيائه، وكما يقول تعالى {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ٩٨}⁣[البقرة]، أليس جبريل وميكائيل $ من الملائكة؟

  فلماذا أفردهما وخصهما بالذكر بعد ذكر الملائكة عموماً؟

  ماذلك إلاَّ لتفضيل الله لهما على سائر الملائكة، وزيادة خصوصية لهما على غيرهما.

  وكما يقول {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ٣٣}⁣[آل عمران]، والإصطفاء لا يكون إلاَّ بالتفضيل.

  وكما يقول تعالى في ذكر التفضيل عموماً بين خلقه وأنه راجع إلى إرادته ومشيئته {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}⁣[الأنعام: ٨٣] ويقول: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}⁣[البقرة: ١٠٥]،