ديوان الهبل،

الحسن بن علي الهبل (المتوفى: 1079 هـ)

ناعط بين الهبل وأبي الرجال

صفحة 560 - الجزء 1

  بعقود الفتوات، فكل أثنى عليهم خيرا، وأوسعهم شكرا، وفي بلدهم برد شديد خلا إنّه دون برد «ناعط» فإنّه لا يحدّ ولا يوصف، ولا يُرسم ولا يُعرف، ولقد لقي الناس فيه من المتاعب، والأهوال التي تذهل الأخ عن الأخ كيف الصاحب عن الصاحب، ما لم يلقه أحد من العالمين، ولم يُعلم بمثله في ماضي السنين، حتى أن أهله ذكروا إن ذلك شيء لم يعهدوه، وأمر لم يجدوه، وسأذكر بعض صفات «ناعط» ولستُ لأجل العجز عن وصفه بباسط، ثم ارتحل المولى أمير المؤمنين # من «الرَّجو» وأمسى على «ناعط» المذكور وهو من بلاد «الصيد» محل مرتفع من مآثر «حمير»، فيه عمائر قديمة، ومباني قد أنحلتها كل ديمه، وفيه قصر قد كربت⁣(⁣١) آثاره تندرس، وجامع كادت صحائفه تنطمس، وأساطين تحير العقول. وتقول بلسان حالها؛ سبحان من لا يزول ولا يحول، فهي عبرة للناظرين، وتبصرةً لِلْمُستبصرين، وموعظة باهرة، وموقظةٌ زاجرة، قد ظلت تنشد بلسان حالها، وتعظ تذكر زَمَانَي إدبارها وإقبالها:

  كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر،

  بلي؛ نحن كنا أهلها، فأبادنا ... صروف الليالي والحظوظ العوائر!

  وفيها من البرد والرياح، ما يهلك الأجساد والأرواح، ريحها سموم، وماؤها معدوم، ومشاهدة أهلها تجلب الهموم، ومجهول سيئاتها أكثر من المعلوم، سكانها من أهل «الشمال» والمجرمين، وأجفا من رأيت من العالمين، لا يعرفون غير «الشقا»⁣(⁣٢) والعمل، فهم كالأنعام بل هم أضل؛ يَتَنكَبون طرق المروة، ويجعلون أصابعهم في آذانهم إذا دعاهم داعي الكرم والفتوة، يعدون إكرام الضيف مغرما، وإيواء المسلّم بهم محرما، ولقد لقينا في بلدهم من البرد العظيم، والريح التي ما تذر من شيء أنت عليه، إلا جَعَلَتْه كالرميم، ما لا يُدرك غاية وصفه واصف وإن أطنب، ولا يبلغ منتهاه بليغ وإن أسهب، خلاً إنّي قد وصفت شيئاً من حالها،


(١) كرب كروباً: دنا، وكربت الشمس: دنت للمغيب، وحياة النار: قُرب انطفاؤها.

(٢) يريد بالشقا أيضا العمل، واليمنيون يسمون العامل «شاقيا) ويقولون فلان «يشقى» أي يعمل